الفقهاء وأهل العلوم كلهم قاصرين في البلاغة وما ذلك إلا لما يسبق إلى محفوظهم ويمتلئ به من القوانين العلمية والعبارات الفقهية الخارجة عن أسلوب البلاغة والنازلة عن الطبقة لأن العبارات عن القوانين والعلوم لاحظ لها في البلاغة فإذا سبق ذلك المحفوظ إلى الفكر وكثر وتلونت به النفس جاءت الملكة الناشئة عنه في غاية القصور وانحرفت عباراته عن أساليب العرب في كلامهم وهكذا نجد شعر الفقهاء والنحاة والمتكلمين والنظار وغيرهم: ممن لم يمتلئ من حفظ النقي الحر من كلام العرب أخبرني صاحبنا الفاضل: أبو القاسم بن رضوان كاتب العلامة بالدولة المرينية قال: ذاكرت يوما صاحبنا: أبا العباس بن شعيب كاتب السلطان: أبي الحسن وكان المقدم في البصر باللسان لعهده فأنشدته مطلع قصيدة ابن النحوي ولم أنسبها له وهو هذا:
لم أدر حين وقفت بالأطلال ... ما الفرق بين جديدها والبالي
فقال لي على البديهة: هذا شعر فقيه فقلت له: من أين لك ذلك؟ قال: من قوله: ما الفرق إذ هي من عبارات الفقهاء وليست من أساليب كلام العرب فقلت له: لله أبوك إنه ابن النحوي.
وأما الكتاب والشعراء: فليسوا كذلك لتخيرهم في محفوظهم ومخالطتهم كلام العرب وأساليبهم في الترسل وانتقائهم له الجيد من الكلام.
ذاكرت يوما صاحبنا١: أبا عبد الله بن الخطيب وزير الملوك بالأندلس من بني الأحمر وكان الصدر المقدم في الشعر والكتابة فقلت له: أجد استصعابا علي في نظم الشعر متى رمته مع بصري به وحفظي للجيد من الكلام من: القرآن والحديث وفنون من كلام العرب - وإن كان محفوظي قليلا - وإنما أتيت - والله أعلم - من قبل ما حصل في حفظي من الأشعار العلمية والقوانين التأليفية فإني حفظت قصيدتي: الشاطبي الكبرى والصغرى في القراءات وتدارست كتابي ابن الحاجب: في الفقه والأصول وجمل الخونجي في المنطق وبعض كتاب التسهيل وكثيرا من قوانين التعليم في المجالس فامتلأ محفوظي من ذلك وخدش وجه الملكة التي استعددت لها بالمحفوظ الجيد من القرآن والحديث وكلام العرب فعاق القريحة عن بلوغها فنظر إلي ساعة معجبا ثم قال: لله أنت وهل يقول هذا إلا مثلك؟!.
ويظهر لك من هذا المطلب وما تقرر فيه سر آخر وهو: إعطاء السبب في أن كلام الإسلاميين من العرب أعلى طبقة في البلاغة وأذواقها من كلام الجاهلية في منثورهم ومنظومهم
فإنا نجد شعر حسان بن ثابت وعمر بن أبي ربيعة والحطيئة وجرير والفرزدق ونصيب وغيلان ذي الرمة والأحوص وبشار ثم كلام السلف من العرب في الدولة الأموية وصدرا من الدولة العباسية في: خطبهم وترسيلهم ومحاوراتهم للملوك أرفع طبقة في البلاغة من شعر النابغة وعنترة وابن كلثوم وزهير وعلقمة بن عبدة وطرفة بن العبد ومن كلام الجاهلية في منثورهم ومحاوراتهم والطبع السليم والذوق الصحيح شاهدان بذلك للناقد البصير بالبلاغة والسبب في ذلك: أن هؤلاء الذين أدركوا الإسلام سمعوا الطبقة العالية من الكلام في القرآن والحديث اللذين عجز البشر عن الإتيان بمثليهما لكونها ولجت في قلوبهم