العلوم تارة على المسائل المخصوصة كما يقال: فلان يعلم النحو. وتارة على التصديقات بتلك المسائل عن دليلها. وتارة على الملكة الحاصلة من تكرر تلك التصديقات أي ملكة استحضارها وقد يطلق الملكة على التهيؤ التام وهو أن يكون عنده ما يكفيه لاستعلام ما يراد. والتحقيق أن المعنى الحقيقي للفظ العلم هو الإدراك ولهذا المعنى متعلق هو المعلوم. وله تابع في الحصول يكون وسيلة إليه في البقاء وهو الملكة. فإطلاق لفظ العلم على كل منها إما حقيقة عرفية أو اصطلاحية أو مجاز مشهور. وقد يطلق على مجموع المسائل والمبادئ التصورية والمبادئ التصديقية والموضوعات ومن ذلك يقولون: أجزاء العلوم ثلاثة. وقد تطلق أسماء العلوم على مفهوم كلي إجمالي يفصل في تعريفه فإن فصل نفسه كان حدا اسميا وإن بين لازمه كان رسما اسميا. وأما حده الحقيقي فإنما هو بتصور مسائله أو بتصور التصديقات المتعلقة بها فإن حقيقة كل علم مسائل ذلك العلم أو التصديقات بها وأما المبادئ وآنية الموضوعات فإنما عدت جزءا منها لشدة احتياجها إليها وفي تحقيق ما ذكرنا بيانات ثلاثة:
البيان الأول: في بحث الموضوع
اعلم أن السعادة الإنسانية لما كانت منوطة بمعرفة حقائق الأشياء وأحوالها بقدر الطاقة البشرية وكانت الحقائق وأحوالها متكثرة متنوعة تصدى الأوائل لضبطها وتسهيل تعليمها فأفردوا الأحوال الذاتية المتعلقة بشيء واحد أو بأشياء متناسبة ودونوها على حدة وعدوها علما واحدا وسموا ذلك الشيء أو الأشياء موضوعا لذلك العلم لأن موضوعات مسائله راجعة إليه
فموضوع العلم ما تنحل إليه موضوعات مسائله وهو المراد بقولهم في تعريفه بما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية. فصار كل طائفة من الأحوال بسبب تشاركها في الموضوع علما منفردا ممتازا بنفسه عن طائفة متشاركة في موضوع آخر فتمايزت العلوم في أنفسها بموضوعاتها وهو تمايز اعتبروه مع جواز الامتياز شيء آخر كالغاية والمحمول. وسلكت الأواخر أيضا هذه الطريقة الثانية في علومهم وذلك أمر استحسنوه في التعليم والتعلم. وإلا فلا مانع عقلا من أن يعد كل مسألة علما برأسه ويفرد بالتعليم والتدوين ولا من أن يعد مسائل متكثرة غير متشاركة في الموضوع علما واحدا يفرد بالتدوين وإن تشاركت من وجه آخر ككونها متشاركة في أنها أحكام بأمور على أخرى فعلم أن حقيقة كل علم مدون المسائل المتشاركة في موضعها واحد وأن لكل علم موضوعا وغاية. وكل علم له جهة وحدة تضبط تلك المسائل المتكثرة وتعد باعتبارها علما واحدا. إلا أن الأولى جهة وحدة ذاتية والثانية جهة وحدة عرضية. ولذلك تعرف العلوم تارة باعتبار الموضوع فيقال في تعريف المنطق مثلا: علم يبحث فيه عن أحوال المعلومات وتارة باعتبار الغاية فيقال في تعريفه: آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن عن الخطأ في الفكر ثم إن الأحوال المتعلقة بشيء موحد أو أشياء مناسبة تناسبا معتدا به إما في أمر ذاتي كالخط والسطح والجسم التعليمي المتشاركة في مطلق المقدار الذي هو ذاتي لها كعلم الهندسة أو في أمر عرضي كالكتاب والسنة والإجماع والقياس المتشاركة في كونها موصلة إلى الأحكام الشرعية كعلم أصول الفقه فنكون تلك الأحوال من الأعراض الذاتية التي تلحق الماهية من حيث هي لا بواسطة أمر أجنبي وأما التي جميع مباحث العلم راجعة إليها فهي إما راجعة إلى نفس الأمر الذي هو الواسطة كما يقال في الحساب: العدد إما زوج أو فرد أو إلى جزئي تحته كقولنا: الثلاثة فرد وكقولنا في الطبيعي: الصورة تفسد وتخلف به لا عنه،