ثم إن العلوم مع اشتراكها في الشرف تتفاوت فيه فمنه ما هو بحسب الموضوع كالطب فإن موضوعه بدن الإنسان. والتفسير فإن موضوعه كلام الله سبحانه وتعالى ولا خفاء في شرفهما.
ومنه ما هو بسحب الغاية كعلم الأخلاق فإن غايته معرفة الفضائل الإنسانية ومنه ما هو بحسب الحاجة إليه كالفقه فإن الحاجة إليه ماسة ومنه ما هو بحسب وثاقه الحجة كالعلوم الرياضية فإنها برهانية.
ومن العلوم ما يقوى شرفه باجتماع هذه العبارات فيه أو أكثرها كالعلم الإلهي فإن موضوعه شريف وغايته فاضلة والحاجة إليه ماسة. وقد يكون أحد العلمين أشرف من الآخر باعتبار ثمرته أو وثاقة دلائله أو غايته. ثم إن شرف الثمرة أولى من شرف قوة الدلالة فأشرف العلوم ثمرة العلم بالله سبحانه وتعالى وملائكته ورسله وما يعين عليه فإن ثمرته السعادة الأبدية.
الإعلام الثاني: في كون العلم ألذ الأشياء وأنفعها وفيه: تعليمات
الأول: في لذته
اعلم أن شرف الشيء إما لذاته أو لغيره والعلم حائز الشرفين جميعا لأنه لذيذ في نفسه فيطلب لذاته لذيذ لغيره فيطلب لأجله أما الأول: فلا يخفى على أهله أنه لا لذة فوقها لأنها لذة روحانية وهي اللذة المحضة وأما اللذة الجسمانية فهي دفع الألم في الحقيقة كما أن لذة الأكل دفع ألم الجوع ولذة الجماع دفع ألم الامتلاء. بخلاف اللذة الروحانية فإنها ألذ وأشهى من اللذائذ الجسمانية. ولهذا كان الإمام الثاني محمد بن الحسن الشيباني١ يقول عندما انحلت له مشكلات العلوم: أين أبناء الملوك من هذه اللذة سيما إذا كانت الفكرة في حقائق الملكوت وأسرار اللاهوت ومن لذته التابعة لعزته أنه لا يقبل العزل والنصب مع دوامه لا مزاحمة فيه لأحد لأن المعلومات متسعة مزيدة بكثرة الشركاء.
ومع هذا لا ترى أحدا من الولاة الجهال إلا يتمنون أن يكون عزهم كعز أهل العلم إلا أن الموانع البهيمية تمنع عن نيله.
وأما اللذائذ الحاصلة لغيره: أما في الأخرى فلكونه وسيلة إلى أعظم اللذائذ الأخروية والسعادة الأبدية ولن يتوصل إليها إلا بالعلم والعمل ولا يتوصل إلى العمل أيضا إلا بالعلم بكيفية العمل. فأصل سعادة الدارين هو العلم فهو إذا أفضل الأعمال. وأما في الدنيا فالعز والوقار ونفوذ الحكم على الملوك ولزوم الاحترام في الطباع فإنك ترى أغبياء الترك وأجلاف العرب وأراذل العجم يصادفون طباعهم مجبولة على التوقير لشيوخهم لاختصاصهم بمزيد علم مستفاد من التجربة بل البهيمة تجدها توقر الإنسان بطبعها
١ هو محمد بن الحسن بن فرقد من موالي بني شيبان، إمام بالفقه والأصول وهو الذي نشر علم أبي حنيفة ولذا نعت بالإمام الثاني، أصله من قرية حرسته في غوطة دمشق وولد بواسط ونشأ بالكوفة، ولي القضاء للرشيد في الرقة، مات في الري. له مؤلفات كثيرة ١٣١-١٨٩هـ = ٧٤٨-٨٠٤م.