ومنها: أن يكون العلم عزيز المنال رفيع المرقى قلما يتحصل غايته ويتعاطاه من ليس من أهله لينال بتمويهه عرضا كما اتفق في علوم الكيمياء والسيمياء والسحر والطلسمات. والعجب ممن يقبل دعوى من يدعي علما من هذه العلوم فإن الفطرة قاضية بأن من يطلع على ذبابة من أسرار هذه العلوم يكتمها عن والده وولده.
ومنها: ذم جاهل متعالم لجهله إياه فإن من جهل شيئا أنكره وعاداه كما قيل: المرء عدو لما جهله. أو ذم جاهل متعالم لتعصبه على أهله بسبب من الأسباب فإنك تسمعهم يقولون بتحريم المنطق مع كونه ميزان العلوم وتحريم الفلسفة مع أنها عبارة عن معرفة حقائق الأشياء وليس فيها ما ينافي الشرع المبين والدين المتين غير المسائل اليسيرة التي أوردها أصحاب التهافت وليس في كتب الحنفية القول بتحريم المنطق غير الأشباه فإن كان صاحبه رآه كان المناسب أن ينقل وأما ما في كتب الشافعية من التصريح به فمن رآه كان المناسب أن ينقل. وأما ما في كتب الشافعية من التصريح به فمن قبيل سد الذرائع وصرف الطبائع إلى علوم الشرائع. ولعل المراد من منع الأئمة عن تعليم بعض العلوم وتعلمه تخليص أصحاب العقول القاصرة من تضييع العمر وتوزيبه بلا فائدة فإن في تعليم أمثاله ليس له عائدة وإلا فالعلم إن كان مذموما في نفسه على زعمهم فإنه لا يخلو تحصيله عن فائدة أقلها رد القائلين به قال الغزالي في الإحياء: إن العلم لا يذم لعينه وإنما يذم في حق العباد لأحد أسباب ثلاثة
الأول: أن يكون مؤديا إلى ضرر ما إما لصاحبه أو لغيره كما يذم علم السحر والطلسمات وهو حق إذ شهد القرآن له.
الثاني: أن يكون مضرا لصاحبه في غالب الأمر كعلم النجوم.
الثالث: الخوض في علم لا يستقل الخائض فيه فإنه مذموم في حقه كتعلم دقيق العلوم قبل جليلها وخفيها قبل جليها وكالبحث عن الأسرار الإلهية إلى آخر ما قال وأطال في بيان هذه الأسباب الثلاثة فإن شئت الزيادة فارجع إليه فإنه ينفعك نفعا عظيما.
الإعلام الرابع: في مراتب العلوم من التعليم
ولا يخفى أن يقدم الأهم فالأهم فيه والوسيلة مقدمة على المقصد كما أن المباحث اللفظية مقدمة على المباحث المعنوية لأن الألفاظ وسيلة إلى المعاني. ويقدم الأدب على المنطق ثم هما على أصول الفقه. ثم هو على الخلاف والتحقيق أن تقديم العلم على العلم لثلاثة أمور:
إما لكونه أهم منه كتقديم فرض العين على فرض الكفاية وهو على المندوب إليه وهو على المباح.
وإما لكونه وسيلة إليه كما سبق فيقدم النحو على المنطق. وإما لكون موضوعه جزءا من موضوع العلم الآخر والجزء مقدم على الكل فيقدم الصرف على النحو وربما يقدم علم على علم لا لشيء منها بل لفرض التمرين على إدراك المعقولات كما أن طائفة من القدماء قدموا تعليم علم الحساب. وكثيرا ما يقدم الأهون فالأهون ولذا قدم المصنفون في كتبهم النحو