ثم لما كان للعالم والعلم هذه الفضائل وهذه الأحوال كان من قام به كما ينبغي من أهل السعادة ومن ترك ما يليق وتبع ما يجانب العلم ويخالف المراد منه كان من أهل البلاء والشقاوة ولذلك أسباب: الأول: أنه لا يقصد بالتعلم والتعب إلا الله سبحانه وما يوافق مراده.
الثاني: أنه لا يكون قصده بعد أن حصل له العلم إلا أن يعمل ويخدم ويقرر ما صح عنه صلى الله عليه وسلم ويرد ما خالف سنته كائنا ما كان.
الثالث: أن لا يعمل ولا يترك إلا وقد قام له دليل على العمل أو الترك من الكتاب والسنة أو استنباط جلي منهما. ولا يجعل لرأيه دخلا في إثبات الشريعة ولا يكلف الناس بمجرد ما خطر بباله إذا لم تكن له عليه حجة تكون له بها النجاة إذا سئل بما أثبت ذلك الحكم وما كلف به العباد.
الرابع: ترك التعصبات كلها. وهي أقسام وقد حقق ذلك شيخنا الإمام في أدب الطلب فمن أراد الاطلاع عليها فعليه به. وليس للعالم مسرح في التشريع ولا كل ما قاله صواب بل هو مجوز عليه الخطأ والصواب فكيف يقع منه التعصب لقول عالم أو لقول صدر منه.
الخامس: أن لا يرى لنفسه حقا وأن لا يعتريه عجب وكبر لأنه محل الضعف والزلل والخطأ وكم مثله من العلماء وكم وأي رتبة قد بلغ إليها. فإنه إذا نظر في أبناء كل زمان وأبناء زمانه نظر وإذا فيهم من لا يبلغ قدره ولا ينال من الحظ والمعرفة ماله. بل إذا نظر إلى من هو أحقر منه يجد عنده من الفوائد ما لم يكن عنده ولم يبلغ رتبة الكمال من الخلق فرد ولو بلغ إلى النهاية القصوى ففوقه من هو أعلى منه رتبة وأرفع منه كعبا. على أنه إذا تفكر في أمر علم أنه لا يحسن منه ذلك وهو أنه اشترك هو وجميع النوع الإنساني في الماهية وفي سائر الصفات ومنحه الله سبحانه وفتح عليه بالمعرفة مع أنه هو والعامي والجاهل سواء. فهل يكون ذلك داعيا لأن ينظر لنفسه حقا وأن يفتخر ويعتريه العجب وهل تقابل تلك المنحة بهذا.
السادس: أن يصون العلم عما يدنسه فالعلم جوهر شفاف نوري يكدره أدنى مكدر ويذهب برونقه أيسر شيء وما ذاك إلا لشرفه ولذا قيل: إن عيب ذي الشرف مذكور وعيب الجاهل مغمور فيصير عند كل راء وسامع أضحوكة وسخرية فكيف بمن علم تحريم المحرمات كالخمر والزنا والربا وأكل أموال الناس بالباطل والارتشاء ثم أقدم على أحدها؟ فهل تكون لعلمه فائدة؟ وهل تصير له ثمرة؟ وهل كان إلا نكالا ووبالا وسببا لهلاكه وداعيا لأهل البطالة إلى عدم الإقلاع عن تلك الأفعال ومجريا لهم إلى ملازمة الفساد لأنهم قد نظروه بعين العلم فيكون عليه وزره وأوزارهم؟ فكيف إذا انضم إلى فعله التحليل لهم والتحريم من المسامحة والموافقة في مخالفة الشرع؟ فهو أشد من كل بلية وأعظم من كل فتنة لأنه أضله الله على علم ثم لم يكتف بذلك حتى أضل غيره فيكون من أهل الشقاوة.
السابع: أن لا يفتي إلا عن ثبت إذ لو أفتى من دون ثبت كان إثم الذي أفتاه عليه وإثمه على الإقدام على الفتيا من دون معرفة وكان كالحاكم الذي حكم بالحق وهو لا يعلمه وهو من أهل النار كما حكم بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم.
الثامن: أن لا يفتي من ذات نفسه برأيه فهو محرم عليه لأنه مجتهد والمجتهد هو من استفرغ الوسع لتحصيل ظن بحكم ظني فإذا أفتى من دون استنباط ولا معرفة لما يكون هذا الفرد لاحقا