للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الأندلسي لقرب جوارهم وسقوط من خرج منهم إلى فاس قريبا واستعمالهم إياهم سائر الدولة ونسي عهد الخط فيما بعد عن سدة الملك وداره كأنه لم يعرف فصارت الخطوط بإفريقية والمغربين مائلة إلى الرداءة بعيدة عن الجودة وصارت الكتب إذا انتسخت فلا فائدة تحصل لمتصفحها منها إلا العناء والمشقة لكثرة ما يقع فيها من الفساد والتصحيف وتغيير الأشكال الخطية عن الجودة حتى لا تكاد تقرأ إلا بعد عسر ووقع فيه ما وقع في سائر الصنائع بنقص الحضارة وفساد الدول والله أعلم١.

قف: إن الصنائع تكسب صاحبها عقلا وخصوصا الكتابة والحساب وذلك٢ أن النفس الناطقة للإنسان إنما توجد فيه بالقوة وأن خروجها من القوة إلى الفعل إنما هو بتجدد العلوم والإدراكات عن المحسوسات أولا ثم ما يكتسب بعدها بالقوة النظرية إلى أن يصير إدراكا بالفعل وعقلا محضا فتكون ذاتا روحانية وتستكمل حينئذ وجودها. فوجب لذلك أن يكون كل نوع من العلم والنظر يفيدها عقلا فريدا والصنائع أبدا يحصل عنها وعن ملكتها قانون علمي مستفاد من تلك الملكة فلهذا كانت الحنكة في التجربة تفيد عقلا والملكات الصناعية تفيد عقلا والحضارة الكاملة تفيد عقلا لأنها مجتمعة من صنائع في شأن تدبير المنزل ومعاشرة أبناء الجنس وتحصيل الآداب في مخالطتهم ثم القيام بأمور الدين واعتبار آدابها وشرائطها

وهذه كلها قوانين تنتظم علوما فيحصل منها زيادة عقل والكتابة من بين الصنائع أكثر إفادة لذلك لأنها تشتمل على العلوم والأنظار بخلاف سائر الصنائع. وبيانه أن في الكتابة انتقالا من الحروف الخطية إلى الكلمات اللفظية في الخيال ومن الكلمات اللفظية في الخيال إلى المعاني التي في النفس ويكون ذلك دائما فيحل لها ملكة الانتقال من الأدلة إلى المدلولات وهو معنى النظر العقلي الذي يكسب العلوم المجهولة فيكسب بذلك ملكة من التعقل تكون زيادة عقل ويحصل به قوة فطنة وكيس في الأمور لما تعودوه من ذلك الانتقال ولذلك قال كسرى في كتابه لما رآهم بتلك الفطنة والكيس ديوانه أي شياطين وجنون٣. قالوا: وذلك أصل اشتقاق الديوان لأهل الكتابة. ويلحق بذلك الحساب فإن في صناعة الحساب نوع تصرف في العدد بالضم والتفريق يحتاج فيه إلى استدلال كثير فيبقى متعودا للاستدلال والنظر وهو معنى العقل. والله أعلم بالصواب٤.

الإفهام الرابع: في أوائل ما ظهر من العلم والكتاب

اعلم أنه يقال: إن آدم عليه الصلاة والسلام كان عالما بجميع اللغات لقوله سبحانه وتعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} قال الإمام الرازي٥: المراد أسماء كل ما خلق الله سبحانه وتعالى من أجناس المخلوقات بجميع اللغات التي يتكلم بها ولده اليوم وعلم أيضا معانيها وأنزل عليه كتابا وهو كما ورد في حديث أبي ذر٦ رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله أي كتاب أنزل على آدم؟ قال: "كتاب المعجم" قلت: أي كتاب


١ آخر كلام ابن خلدون في صفحة ١٠٩٢.
٢ انظر هذا الفصل في مقدمة ابن خلدون في صفحة ١١٠٥-١١٠٦.
٣ حنون: مفردها حن: ضرب من الجن.
٤ آخر كلام ابن خلدون.
٥ سبقت ترجمته ص٣١.
٦ الغفاري، واسمه جندب بن جنادة بن سفيان، صحابي مشهور من كبارهم. توفي سنة ٣٢هـ-٦٥٢م.

<<  <   >  >>