فابنُ عباسٍ خاف على الناسِ المسارعةَ في القراءةِ دونَ فقهٍ وفهمٍ، وهذا قد يؤدي إلى انحرافٍ عن الجادةِ، أما ترى الخوارجَ كانوا من قُرَّاءِ القرآنِ، لكنْ لم يجاوزْ حناجرَهم، فلم يَصِلْ إلى قلوبِهم، والمَعْنيُّ هو التدبرُ.
أيها المتفقه،
الأمرُ ليس بمدارسةِ جزئياتٍ وتركِ أمورٍ أخرى قد تكونُ أولى، ولا تبلغُ منازلَ أهلِ العلمِ بقراءةِ نتفٍ من العلومِ، إنَّ طلبَ العلمِ جهاد في سبيلِ اللهِ؛ لذلك وصفه اللهُ جَلَّ وَعَلَا بالنُّفْرةِ، شأنُه شأنُ الجهادِ، فحذارِ من أن تُخدعَ، بل أنزل النَّاسَ منازلَهم، ولكلٍّ حقه من التوقيرِ والتعظيمِ، كلٌّ بحسبِ قدرِه ورتبتِه.
يقول الخطيبُ البغداديُّ:"وقد رأيتُ خلقًا من أهلِ هذا الزمانِ ينتسبون إلى الحديثِ، ويَعُدُّون أنفسَهم من أهلِه المتخصصين بسماعِه ونقلِه، وهم أبعدُ الناسِ مما يدَّعون، وأقلُّهم معرفةً بما إليه ينتسبون، يرى الواحدُ منهم إذا كتب عددًا قليلًا من الأجزاءِ واشتغل بالسماعِ بُرهةً يسيرةً من الدَّهرِ أنه صاحبُ حديثٍ على الإطلاقِ، ولمَّا يُجْهِدْ نفسَه ويُتْعِبْها في طِلَابِه، ولا لحقتُه مشقةُ الحفظِ لصنوفِه وأبوابِه، ... وهم مع قلةِ كَتْبِهم له وعدمِ معرفتِهم به أعظمُ النَاسِ كِبْرًا، وأشدُّ الخَلْقِ تيهًا وعُجبًا، لا يراعون لشيخٍ حُرمةً، ولا يوجبون لطالبٍ ذِمَّةً، يَخْرِقون بالراوين، ويُعَنِّفون على المتعلمين، خِلافَ ما يقتضيه العلمُ الذي سَمِعوه، وضدَّ الواجبِ مما يلزمُهم أن يفعلوه"(١).