للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

شئونها إلا ما كان في إطار التحالفات، والمصالح الخاصة، كما أن الاختلاف المذهبي أسهم في خلق وعي لديها تجاه الإسلام على الرغم من أنها وجدت فيه تحديًَا عقائديًا يفوق، مبدئيًا، التحدي البيزنطي، من هذا المنطلق تكتسب غزوات المسلمين نحو الشمال، بعد صلح الحديبية، تلك الأهمية التي فرضتها إعادة ترتيب مواقع النفوذ البيزنطي في الأطراف الشمالية١.

استأنف النبي نشاطه الجهادي في الشمال بعد صلح الحديبية، فأرسل كتابين، أحدهما إلى الإمبراطور البيزنطي، والآخر إلى الحارث بن أبي شمر الغساني ملك تخوم بلاد الشام، وتطرق في الكتاب الذي أرسله إلى هرقل إلى أوضاع القبائل العربية الموالية لبيزنطية، الأمر الذي آثار الإمبراطور البيزنطي، ودفعه إلى استنفار قواته وحلفاته من العرب: "فلا تحل بين الفلاحين، وبين الإسلام أن يدخلوا فيه أو يعطوا الجزية".

وقد وردت أيضا عبارة الأريسيين محل الفلاحين، أي أتباع آريوس، وهم أصحاب المشيئة الواحدة المعارضة للمذهب الملكاني الذي اعتنقه البيزنطيون، إذ كانت القبائل العربية المنتصرة على مذهب الآريوسية الذي حمل اسم اليعقوبية فيما بعد، كما وردت لفظة الأكاريين للدلالة على أولئك الذين يعملون بحراثة الأرض وزراعتها٢.

وهكذا ستحمل هذه المرحلة الجديدة اهتمامًا أكثر من جانب النبي بأمور بلاد الشام، وستتوج سياسته هذه بغزوتي مؤنة، وتبوك في العامين الثامن والتاسع الهجريين.

ففيما يتعلق بغزوة مؤنة، فإن أسبابها مرتبطة بالتحولات التي أسفرت عنها عودة البيزنطيين إلى بلاد الشئام من واقع سياسة هرقل الجديدة نحو القبائل العربية، والعمل على احتوائها بصورة مباشرة، وكان احتكاك المسلمين بعدد من هذه القبائل، وبخاصة كلب وجذام وقضاعة وفزارة، قد أثار حفيظة الإمبراطور، وعده تحريضًا لها على الخروج على السيادة البيزنطية٣، كما أن مواقف هذه القبائل المعادية للنبي والمسلمين، والتي اتخذت صفة الغدر برسله إلى بلاد الشام؛ دفعته للعمل على تأديبها.

كان حادث اعتراض شرحبيل بن عمرو الغساني لمبعوث النبي الحارث بن عمير الأزدي إلى ملك بصري، وقتله عند قرية مؤتة؛ هو الذي فجر الوضع العسكري في وقت بلغ فيه التوتر ذروته بين الطرفين، وتجلى ذلك في سرعة المبادرة في إعداد


١ بيضون، إبراهيم: حملة مؤتة، المؤتمر الدولي الرابع لبلاد الشام عام ١٩٨٧م، ص٦٢، ٦٣.
٢ الطبري: ج٢ ص٦٤٩، ابن كثير: البداية والنهاية ج٤ ص٢٦٥.
٣ بيضون: دولة الرسول في المدينة ص٩٠.

<<  <   >  >>