التي حدثت بعد وفاة النبي كانت أكثر تباينًا في نوعها من أن ندخلها تحت حركة الردة، ولهذا لا يمكن الحديث بأي حال، عن ارتداد عام عن الإسلام، ولا بد من أن نبحث في كل حالة على حدة، ونتوغل في عمق كل قبيلة، بل في كل بطن من بطون القبائل الكبيرة.
ويواجه المؤرخ صعوبة في استنباط أسبابها الدينية والسياسية، والاجتماعية والاقتصادية، نظرًا لقلة المادة التاريخية المتعلقة بظروفها وحيثياتها، مع أنها شكلت تحديًا كبيرًا لهيبة الدولة الإسلامية الناشئة، وأول اختبار للمجتمع الإسلامي الجديد، وأول شرخ يصيب هذا المجتمع الموحد في إطار الدين الإسلامي، كما كانت المواجهة الأولى للخليفة حين وضعت كفاءته أمام الامتحان الصعب، وعملت على إنهاء نفوذه على كثير من مناطق الجزيرة العربية، لذلك، فإن علينا البحث عن اللمحات، والإشارات المبعثرة في المصادر، ومحاولة جمعها وتصنيفها، وتنسيقها بما يسمح بتشكيل صورة قريبة نسبيًا من الحقيقة التاريخية، ويذكر أن الردة لم تنشأ صدفة، ولم تكن مفاجأة، وإنما لها مقدماتها وشروطها المرتبطة ارتباطًا عضويًا بتاريخ تنامي نفوذ المدينة، وما نجم عن ذلك من التحاق الكثير من القبائل بها.
اتجهت سياسة النبي العامة نحو توحيد العرب تحت راية الدين الإسلامي في مؤسسة تتخطى النظام القبلي، واستطاع أن يؤسس جماعة دينية سياسية جسدت كيان دولة، فدخل العرب عامتهم في هذا الدين، وانضووا تحت لواء النبي، ودانوا له بالزعامتين الدينية، والسياسية بفعل أنه يصدر أحكامه عن وحي الله وأمره، بالإضافة إلى أنه كان مثاليًا في سلوكه، إذ سوى في المعاملة بين القبائل المختلفة، ولم يخضع لنزعات النفس البشرية، وميلها إلى إيثار الأهل والعشيرة، ويعد ذلك حدثًا دينيًا، وسياسيًا بالانضمام إلى دولة المدينة، واعتناق دينها، وهذه سمة توحيدية.
وهكذا تم توحيد القبائل في الجزيرة العربية في دولة واحدة يرأسها النبي ومركزها المدينة، لكن هذه الوحدة كانت مفككة، فالاضطراب الذي لازم مواقف القبائل العربية، التي لم يترسخ الإسلام في قلوبها نظرًا لحداثته؛ وحد التيارات المختلفة في المدينة، فالتف الجميع حول الخليفة، أما خارج نطاق المدينة، وفي أرجاء واسعة من جزيرة العرب، فلم يكن يوجد سوى أشكال من التحالف السياسي مع المدينة، بالإضافة إلى ذلك فإن الدخول في الإسلام كان قرارًا سياسيًا استهدفت به زعامات القبائل المحافظة على كيانها، وتحاشي خطر المسلمين عليها.