لا غنى لعلمٍ من العلوم طبيعيًّا كان أو إنسانيًّا عن نظرية تربط بين وقائعه في نظام متناسق متكامل يفسر هذه الوقائع ويوسع من نطاقها ويثير من المشكلات بقدر ما يحله منها. والعلم سعي دائم وراء المجهول في نسق نظامي يستند إلى قاعدة تسمح للعالم أن ينظر من علٍ، وأن يغيِّر من زواياها ومستوياتها ليعيد النظر من منظور أعلى، والعالم في سعيه لمعرفة الحقائق عن الإنسان يحتاج إلى تنظيم هذه الحقائق في نظم من القوانين والنظريات، ولا يقتصر اهتمامه على الحقائق والعلاقات الثابتة بالدليل والبرهان، ولكنه يهتم أيضًا باكتشاف الطرق لتخليص هذه الحقائق.
وقد يظن الرجل العادي أن العالم يتعامل مع الحقائق، في حين أن الفيلسوف هو الذي يهتم بالنظريات، فالعالم بالنسبة له ذلك الشخص المنظَّم المخلص لعمله, الذي يبحث عن الحقائق الخالصة أكثر من أن يكون مغامرًا عقليًّا يبتكر تركيبات تخيلية, ويظن الرجل العادي أيضًا أن الحقائق محدودة، واقعية، ملموسة, وأن معناها واضح في ذاته. أما النظريات فهي في رأيه مجرَّد تأمّلات أو أحلام يقظة, ولكون الواقع هو أن تجميع كميات ضخمة من الحقائق المنعزلة يمكن أن يسهم إسهامًا ضئيلًا في تقدُّم المعرفة، لذا: فإن الغاية القصوى التي ينشدها العالم ليست تجميع الحقائق, وإنما تنمية النظريات التي سوف توضح جانبًا معينًا من الظاهرات. إن أعظم موهبة يمكن أن يمتلكها عالم هي الخصوبة التصورية، أي: القدرة على بناء تخمينات ذكية جريئة أصيلة عن الكيفية التي تنظم بها الحقائق, ومع أن العلم يؤكد الموضوعية، إلّا أنه يهتم إلى درجة بعيدة بعملية التنظير الذاتية.
وعلى هذا الأساس: فإن التنظير ليس أداة زخرفية يلهو بها العلماء وهم قابعون في أبراجهم العاجية، ولكنه أداة عملية تمكِّنهم من اكتشاف الميكانيزمات الكامنة وراء الظاهرات, ويزودنا التنظير بالمعالم التي تقودنا على طريق البحث، وبدون التنظير لا يمكن اكتشاف معرفة جديدة. "فان دالين: ١٩٧٧، ٩١-٩٣".