وجعله محبوبًا للرب تعالى بعد أن كان مسخوطا له؟ وإن كان الاحتيال يبلغ هذا المبلغ، فإنه عند الله عز وجل ورسوله بمكان ومنزلة عظيمة، وإنه من أقوى دعائم الدين، وأوثق عراه وأجل أصوله. ويا لله العجب كيف تزول مفسدة التحليل التي أشار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بلعن فاعله مرة بعد أخرى بتسليف شرطه وتقديمه على صلب العقد وإخلاء صلب العقد من لفظه، وقد وقع التواطؤ والتوافق عليه وأي غرض للشارع، وأي حكمة في تقديم الشرط وتسليفه حتى تزول به اللعنة وتنقلب به خمرة هذا العقد خلًّا، وهل كان عقد التحليل مسخوطًا لله ورسوله بحقيقته ومعناه أم لعدم حقيقة مقارنة الشرط له وحصول نكاح الرغبة مع القطع بانتفاء حقيقته وحصول نكاح التحليل، وهكذا الحيل الربوبة فإن الربا لم يكن حرامًا لصورته ولفظه، وإنما كان حرامًا لحقيقته التي امتاز بها عن حقيقة البيع فتلك الحقيقة حيث وجدت وجد التحريم في أي صورة ركبت، وبأي لفظ عبر عنها فليس الشأن في الأسماء وصور العقود، وإنما الشأن في حقائقها ومقاصدها وما عقدت له.
الوجه الثاني: أن اليهود لم ينتفعوا بعين الشحم، وإنما انتفعوا بثمنه. ويلزم من راعي الصور والظواهر والألفاظ دون الحقائق والمقاصد أن لا يحرم ذلك؛ فلما لعنوا على استحلال الثمن، وإن لم ينص على تحريمه، علم أن الواجب النظر إلى الحقيقة والمقصود لا إلى مجرد الصورة. ونظير هذا أن يقال لرجل: لا تقرب مال اليتيم، فيبيعه ويأخذ ثمنه، ويقول: لم أقرب ماله! وكمن يقول لرجل: لا تشرب من هذا النهر فيأخذ بيديه ويشرب من كفيه، ويقول: لم أشرب منه وبمنزلة من يقول: لا تضرب زيدًا فيضربه فوق ثيابه، ويقول إنما ضربت ثيابه، وأمثال هذه الأمور التي لو استعملها الطبيب في معالجة المرضى لزاد مرضهم، ولو استعملها المريض لكان مرتكبًا لنفس ما نهاه عنه الطبيب كمن يقول له الطبيب: لا تأكل اللحم فإنه يزيد في مواد المرض فيدقه، ويعمل منه هريسة، ويقول: لم آكل اللحم وهذا المثال مطابق العامة الحيل الباطلة في الدين، ويا لله العجب أي فرق بين بيع مائة بمائة وعشرين صريحًا وبين إدخال سلعة لم تقصد أصلًا بل دخولها كخروجها؟ ولهذا