للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ويكثر من ذاك، ومنهم من يكثر من ذا، ويقل من ذاك فلا ينبغي أن يهمل أمر واحد منهما بالمرة كما يفعله عامة الفريقين، وإنما الحق البحث أن يطابق أحدهما بالآخر، وأن يجبر خلل كل بالآخر، وذلك قول الحسن البصري: "سنتكم، والله الذي لا إله إلا هو بينهما" بين الغالي والجافي، فمن كان من أهل الحديث ينبغي أن يعرض ما اختاره، وذهب إليه على رأي المجتهدين من التابعين، ومن كان من أهل التخريج له أن يجعل من السنن ما يحترز به من مخالفة الصريح الصحيح، ومن القول برأيه فيما فيه حديث أو يقدر الطاقة، ولا ينبغي لمحدث أن يتعمق بالقواعد التي أحكمها أصحابه وليست منا نص عليه الشارع فيرد به حديثًا أو قياسًا صحيحًا كرد ما فيه أدنى شائبة الإرسال والانقطاع كما فعله ابن حزم رد حديث تحريم المعازف لشائبة الانقطاع في رواية البخاري على أنه في نفسه متصل صحيح فإن مثله إنما يصار إليه عند التعارض، وكقولهم فلان أحفظ لحديث فلان من غيره فيرجحون حديثه على حديث غيره لذلك وإن كان في الآخر ألف رجه من الرجحان، وكان اهتمام جمهور الرواة عند الرواية بالمعنى برءوس المعاني دون الاعتبارات التي يعرفها المتعمقون من أهل العربية فاستدلالهم بنحو الفاء والواو وتقديم كلمة وتأخيرها، ونحو ذلك من التعمق وكثيرًا ما يعبر الراوي الآخر عن تلك القصة فيأتي مكان ذلك الحرف بحرف آخر، والحق أن كل ما يأتي به الراوي فظاهره أنه كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- فإن ظهر حديث آخر أو دليل آخر وجب المصير إليه، ولا ينبغي لمخرج أن يخرج قولًا لا يفيده نفس كلام أصحابه، ولا يفهمه منه أهل العرف والعلماء باللغة ويكون بناء على تخريج مناط أو حمل نظير المسألة عليها مما يختلف فيه أهل الوجوه وتتعارض فيه الآراء، ولو أن أصحابه مثلوا عن تلك المسألة ربما يحملون النظير على النظير لمانع، وربما ذكروا علة غير ما خرجه هو، وإنما جاز التخريج لأنه في الحقيقة من تقليد المجتهد ولا يتم إلا فيما يفهم من كلامه، ولا ينبغي أن يرد حديثًا أو أثر تطابق عليه القوم لقاعدة استخرجها هو أو أصحابه كرد حديث المصراة١. وكإسقاط سنهم ذوي القربى٢، فإن رعاية الحديث أوجب من رعاية تلك


١ راجع ص٩٨ من هذا الكتاب.
٢ أي قربى النبي -صلى الله عليه وسلم- من الفيء والغنيمة، والمعروف أن ذلك مذهب الإمام أبي حنيفة، وقد أخرج أبو داود والنسائي من حديث عمرو بن عبسة قال: صلى بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى بعير من المغنم فلما سلم أخذ وبرة من جنب البعير ثم قال: "ولا يحل لي من غنائمكم مثل هذا إلا الخمس، والخمس مردود فيكم".

<<  <   >  >>