متسع من فوق، كما هو واسع من أسفله، لكنهم اختاروا هذا الجب بكل ما فيه من ظلام ووحشة، ورجعوا إلى أبيهم. فماذا قالوا لأبيهم؟ وماذا قال لهم؟
هنا ينتقل القرآن لعرض مشهد من مشاهد القصة مثير، وكأنّي بك تتصورهم وقد جاءوا جميعًا لأبيهم وقت العشاء، أو قل في جنح الظلام، دون أن يكون معهم يوسف، والمشهد يصورهم وهم يبكون، وقد اختاروا وقت الليل حتى لا تبدو آثار تمثيلهم على أبيهم على وجوههم، وذكروا له أنهم ذهبوا يتسابقون وتركوا يوسف قريبًا منهم عند ملابسهم ومتاعهم، فعدا عليه الذئب فأكله، ولإحساسهم بأنّهم يكذبون قالوا:{وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} أي: بمصدق {وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ}، وإمعانًا في إخفاء معالم جريمتهم جاءوا لأبيهم بقميص يوسف وهو ملوث بالدماء، وهذا الدم دم سخلة ذبحوها، ولطخوا بدمها القميص.
كما روي عن ابن عباس ومجاهد، وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة، أنهم أخذوا ظبيًا فذبحوه فلطخوا بدمه القميص، ولما جاءوا به جعل يقلبه فيقول: ما أرى به أثر ناب ولا ظفر، إن هذا السبع رحيم، وفي رواية أنه أخذ القميص وألقاه على وجهه وبكى حتى خضّب وجهه بدم القميص، وقال: تالله ما رأيت كاليوم ذئبًا أحلم من هذا، أكل ابني ولم يمزق عليه قميص.
وهنا تتوقف الآيات لترسم مشهدًا آخر من مشاهد هذه القصة، ويبدأ هذا المشهد بيوسف في الجب، لا طعام معه، وقد تمر عليه أيام فيموت جوعًا، وبينما هو على حاله هذا؛ إذ مرت قافلة بهذا المكان، هذه القافلة متجهة إلى مصر، فأرسلوا واحدًا منهم ليأتي لهم بماء من هذا الجب، فكانت المفاجأة؛ إذ وجد من يتعلق بالدلو، فنظر وصاح:{يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ} فأخرجه، وأراد أن يحتفظ به لنفسه، فادعى أنه اشتراه من أصحاب الماء،