ولا يثبت على فكر، ولا يستريح قلبه للحق، لما كان له من الأثر ما نراه حين ضَرَب لكلٍّ منهما مثلًا، فكان المثل الأول كما ترى للصنف الأول: الذي آمن ثم كفر؛ إذ شبه حاله بحال الذي استوقد نارًا -أي: أوقدها- بعد بحث عنها وطلب لها، فلمّا أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون.
إنه نور الإيمان الذي بدد ظلمات الشك والوهم، وعرف به المؤمن لماذا خلق ولماذا يحيا وإلى أين يصير؟ وماذا يأخذ وماذا يدع؟ فاستقر قلبه وهدأ وجدانه واطمأنت نفسه، وبينما هو في سعادة الإيمان هبّت عليه عواصف الشك، وركبته الشياطين، فانطفأ في قلبه هذا النور، فذهب الله بنورهم، وتركهم في ظلمات لا يبصرون.
وكم في كلمة "تركهم" من تصويرٍ لما حلّ بهم من غضب الله ونقمته، وكم في قوله من ظلمات من دلالة على ما هم فيه من عمى؛ إذ لم تحط بهم ظلمة واحدة، إنما هي ظلمات، ولهذا جاء قوله:{لَا يُبْصِرُونَ}(البقرة: ١٧) يكمل هذه الصورة البشعة لهؤلاء المنافقين، ويبين أنّ الطرق كلها قد عميت عليهم، فلم يعودوا يرون شيئًا، فهم لذلك يتخبطون، ومما زاد هذه الصورة قتامة، هو ما ذكره الله من حالهم؛ حيث قال:{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ}(البقرة: ١٨) صم لا يسمعون الحق، وبكم لا ينطقون بما ينجيهم من عذاب الله، وعمي لا يرون طريق الله، مع أنه واضح لا شبهة فيه، فهم لذلك لا يتوبون، ولا يتذكرون، إلى أن يموتوا، فبئس ما هم فيه وما صاروا إليه.
وقد أوضح هذا المثل ابن مسعود وغيره من الصحابة والتابعين، يقول ابن مسعود وناس من الصحابة: "قيل إنّ ناسًا دخلوا في الإسلام مقدم نبي الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة، ثم إنهم نافقوا، وكان مثلهم كمثل رجل كان في ظلمة، فأوقد نارًا، فلما