هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (طه: ٧٢، ٧٣) أي: لن نُفضّل عندك من الدنيا والمتاع والرفعة حين نكون على ما أنت فيه من كفر، ومن معصية لله ومن محاربة لشرع الله ودين الله وموسى -عليه السلام- فهذا الإيثار ليس هو الإيثار الذي نتحدث عنه.
لم يبقَ لنا سوى موضع واحد في سورة "الحشر" هو قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(الحشر: ٩) وهذه الآية -كما سنرى في الأحاديث- نزلت في أبي طلحة الأنصاري -رضي الله تعالى عنه- وما كان من أمره، وأنه آثر ضيفه على نفسه، وكان في أشدّ الحاجة هو وأهل بيته للطعام، لكنهم فضَّلوا إطعام الضيف على أنفسهم، فذكر ذلك الله في كتابه فقال:{وَمَنْ يُوْقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
هذا إذًا هو الإيثار الذي يريد أن نتحدث عنه في موضوعنا الإيثار في القرآن الكريم.
وتأتي السنة المشرفة وهي باب واسع، لتبيّن هذا الإيثار وكيف يكون، والدواعي التي تدعو إليه:
نذكر من البخاري ما رواه بسنده عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: ((أن رجلًا أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فبعث إلى نسائه فقلنا: ما معنا إلا الماء، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: من يظن أو يضيف هذا؟ فقال رجل من الأنصار: أنا، فانطلق به إلى امرأته فقال: أكرمي ضيف رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقالت: ما عندنا إلا قوت صبياني. فقال: هيِّئي طعامك، وأصبحي سراجك، ونوّمي صبيانك إذا أرادوا عشاءً، فهيَّأت طعامها، وأصبحت سراجها، ونومت صبيانها، ثم قامت كأنها تُصلح سراجها فأطفأته،