الأولى التي سبقت سقوط بغداد بيد المغول سنة ٦٥٦ هـ حركة تأليف رائعة
عزّ نظيرها في مختلف مجالات العلوم الإنسانية، وليس هنا المجال للكلام
عن مثل هذه الأمور، ولكنا نحب أن ننوه أن المسلمين آنذاك عرفوا نظاماً
يشبه نظام الإيداع القانوني المعروف الآن. وإن كنا نجهل الكثير عن
طبيعته والضمانات التي يقدمها وحقوق المؤلفين وطرق حمايتهم. فهذه
الأمور كثيرة بحاجة إلى من يبحثها ويجلي غوامضها، ولعل فيما نكتبه
حافزاً للبعض لطرق هذا الموضوع المهم الغامض الشائك.
فقد عرف المسلمون كما قلنا نظاماً يشبه الإيداع القانوني وأسموه
(التخليد) فقد ازدهرت مكتبة دار العلم التي بناها ببغداد سنة ٣٨٢ هـ
الوزير البويهي: سابور بن أردشير ازدهاراً رائعاً وطار صيتها في الآفاق
وارتفعت سمعتها حتى قصدها الأدباء والعلماء والشعراء من كل مكان
وضربوا إليها آباط الإبل. ويعتبر أبو العلاء المعري الشاعر المشهور أشهر
من قصد بغداد بخاصة لزيارة دار العلم هذه والتعرف على محتوياتها وعلى
الأدباء والعلماء الذين كانوا يرتادونها ويرِدُ ذكرها في مؤلفاته. وقد كان يسر
المؤلف - أي مؤلف كان - أن تقبل هذه الدار نسخة من كتابه كهدية وهذا
هو ما نسميه نحن بالإيداع وكانوا يسمونه (التخليد) .
يذكر ياقوت أثناء حديثه عن أحمد بن علي بن خيران الكاتب
أنه.... سلم إلى أبي منصور بن الشيرازي رسول ابن النجار إلى مصر
من بغداد جزئين من شعره ورسائله واستصحبهما إلى بغداد ليعرضهما على
الشريف المرتضى أبي القاسم - المشرف على مكتبة دار العلم في بغداد
آنذاك ... وغيره ممن يأنس به من رؤساء البلد، ويستشير في تخليدها دار
العلم لينفذ بقية الديوان والرسائل، إن علم أن ما أنفذه منها قد ارتضي
واستجيد) .