للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وكلما كان هناك اتساق بين هذه الجوانب زاد نطاق السعادة كمًّا وكيفًا، ولكن يجب أن ننتبه هنا إلى أن الأخلاق في نظر الإسلام، وإن كانت ترمي إلى تحقيق السعادة للإنسان فإن هذا الهدف هدف الأخلاق لا هدف الذات الفاعلة، فإن هذه الذات ينبغي ألا ينحصر في تحقيق المرء السعادة لنفسه أو لغيره وإنما ينبغي أن يكون هدفه الأول هو الله وحده، إنه يجب أن يقوم بالأعمال الأخلاقية؛ لأنه مأمور بها من قبل خالقه، وأن يقصد بها وجهه لا وجه أحد ولا وجه السعادة أو تحقيق السعادة، هذا القصد الخالص لوجه الله من السلوك في هذه الحياة هو العبادة الخالصة التي جعلها الله الغاية من خلق الإنسان، مصداق ذلك قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} ١، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} ٢، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "فإن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما خلص له" ٣، وكما قلنا: إذا أخلص الإنسان حياته كلها لله كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} ٤، وإذا أسلم الإنسان بهذه الصورة يعد كل سلوكه عبادة يؤجر مقابل كل ما يصاب به في الحياة، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "ما يصاب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفَّر الله بها من خطاياه" ٥، وهذا يقتضي أن يكون صبورا لنيل الثواب، كما يكون صبورًا لمكاسب الدنيا.

وسيأتي تفصيل هذه النقطة الأخيرة بصورة أوضح في الباب الثالث من هذا الكتاب.


١ الذاريات: ٥٦.
٢ الرعد: ٢٢.
٣ منتخب كنز العمال في هامش مسند الإمام أحمد جـ١ ص ١٣٥٣، وفي رواية "إلا ما كان له خالصا وابتغى به وجهه"، الجامع الصغير جـ١ص٧٤.
٤ سورة الأنعام: ١٦٢-١٦٣.
٥ هداية الباري إلى ترتيب أحاديث البخاري جـ١ ص ١٢٣.

<<  <   >  >>