للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وهذا يؤكد ما قال "الجرجاني" في تعريف الفطرة بأنها: الجبلة المتهيئة لقبول الدين, وهذه الجبلة تقبل التوجيه إلى أي دين.

وبناء على هذه الفكرة فالإشهاد في الآية السابقة لم يحصل بالفعل بمعنى الإشهاد الحسي الذي نعرفه وإنما حصل بالقوة، إذ إن وضع الله في الإنسان تلك الدافعية لتأليهه واعترافه بالربوبية يعتبر بمنزلة الإشهاد الحسي وإلا لحصل التناقض بين هذه الآية وبين قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً} ١, ولأدى الأمر إلى مسئولية الأطفال وخاصة أطفال الكفار عن الإيمان بالله وعن الإسلام أيضاً, ثم إن الإسلام لو كانت متطبعاً في الإنسان لعرف الناس الإسلام في جميع البقاع، والواقع خلاف ذلك، والدليل على ذلك أيضاً أن الإسلام لم يجعل الأطفال والناس الذين لم تبلغ إليهم دعوة الإسلام مسئولين عنه, فقال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} ٢.

من هذا كله نضطر إلى تفسير فطرة الإسلام في الطبيعة البشرية بالقوة؛ لأن القوة يمكن أن تظهر بالفعل في صور مختلفة, فمثلاً القوة المدركة المخلوقة للاعتراف بوجود إله في الكون من غير تحديد الذات الإلهية في صورة مشخصة مع صفاتها الكاملة قد يؤدي إلى أن يصوره الإنسان في أشياء معينة أو يضفي عليه صفات معينة وكذلك قد يخلق صوراً معينة من العبادات لله وهذا ما حصل بالفعل، ومن هنا كان إرسال الرسل ضرورياً لتعريف الناس الله بصفاته الكاملة وتحديد صورة العبادة وصورة نظام الحياة عموماً بناء على روح هذا الدين، فلو لم يأت الرسول ولم يحدد أركان العبادات وشروطها وطريقة أدائها بجميع هيئاتها


١ النحل: ٧٨.
٢ الإسراء: ١٥.

<<  <   >  >>