العباسيّ, كما كانت تصب في العصر الجاهليّ والإسلاميّ الأول.
أجل! لقد رقَّ الخيال ولطف، وتولدت المعاني وابتكرت، وتناول الشعر ألوانًا جديدةً لم يقل فيها السابقون، ولكن ظل البيت الذي شاده الجاهليون، والطريق الذي سلكوه في التعبير عن شعورهم هو المثل الأعلى لشعر العصر العباسيّ, بيد أن مقتضيات الحضارة دعت الشعراء أن يؤثثوا هذا البيت الذي ورثوه عن أسلافهم، فحشدوا فيه أنماطًا شتَّى من المعاني العميقة, والأخيلة البعيدة, والفلسفات والحكم، وكثيرًا من صور الحياة في عصرهم، وابتدءوا مع هذا يدخلون شيئًا من الزخرفة بقدر، وكانت زخرفةً منسجمةً مع الرياش والأثاث, وبدأ الشعر العربيّ في عنفوان قوته وازدهاره وغناه.
ثم خلف من بعدهم خلف أضافوا إلى هذا القصر الفاخر كثيرًا من الحلى والزخارف، وكان الضعف ابتدأ يتسرب إلى البناء، ويدب فيه الوهن، وعجز الشعراء عن مجارة الأقدمين في متانة عباراتهم، وتملكهم زمام اللغة، وعجزوا عن مجاراة المولدين في معانيهم العميقة، وأخيلتهم الجميلة، فأكثروا من الزخرف والزينة ليستروا بهما الضعف الشائن، وكانوا على شيءٍ من الإلمام باللغة, وبالأساليب الصحيحة, فلم يستعجم قولهم، وظلَّ في الشعر ذماء يحفظ عليه حياته، وبقي البناء في مجموعة سليمًا.
ثم أخذ البناء يتداعى بضعف الأمة العربية، وخضوعها للأعاجم الذين لا يقدرون هذا التراث الجميل، ولا يعرفون لسان أهله, ولا هَمَّ لهم إلّا ابتزاز الأموال من الشعوب المظلومة, دون مقابلٍ من علمٍ أو صحةٍ أو غنًى، فتفشى الجهل، وساد الظلم، واستعجم الشعراء ولحنوا لحنًا فاحشًا، وكانوا أبعد الناس عن الأساليب الصحيحة، والمعاني الواضحة، والشعور السليم، وخانتهم الأداة المعبرة، وأصبح همهم النظم لا روح فيه, ولا معنى له، والذي يساق في عبارةٍ ركيكةٍ غَثَّةٍ، وفي حشدٍ زاخرٍ من الزينات والمحسنات لتستر عواره, وقد كان الشعر يلفظ أنفاسه الأخيرة عيًّا ومرضًا حين ابتدأ العصر الحديث.
ابتدأت النهضة الشاملة منذ عصر محمد علي، وقد رأيت شيئًا من معالمها، ورأيت كيف كان الشعر يرتدد بين المرض والعافية، فيصحّ أحيانًا, وينتكس أحيانًا كثيرة, والنهضة سائرةٌ في طريقها في عهد إسماعيل، واللغة يدب فيها شيء منالقوة، والمطابع تدفع بالكتب الأدبية القديمة، والمدارس تبدد سدف الجهل والظلام، والصحافة تكشف الطريق، وتزيل ما به من أوضار وعوائق، ولكن الشعر ظلَّ على حاله من الضعف, لم يقف على قدميه بعد، وكان مُكَبَّلًا بقيودٍ ثقيلة، تحت أنقاض هذا البناء المشمخر الذي تداعى أيام الانحلال.
وشاء الله أن يبعث من ينهضه من كبوته، ويقيله من عثرته، ويلقي بهذه الآفات والأوضار بعيدًا، ويعيد للبناء قوته ومجده، وزخرفته الطبيعية الجذابة دفعةً واحدةً، كأنما هي عصا ساحر, قلبت الميت حيًّا, والضعيف قويًّا، والمعدم ثريًّا, كان هذا على يد إمام النهضة الشعرية الحديثة في العالم العربيّ: