إذا كانت الأحداث السياسية وتقلباتها الكثيرة، والثورات العنيفة، ويقظة الشعوب الشرقية والإسلامية، قد وضعت أمام الكُتَّاب مادةً خصبةً غزيرةً، وجعلتهم يخوضون في شتَّى الموضوعات؟ وإذا كانت الحال الاجتماعية، وما عليه الناس من فقرٍ وجهلٍ ومرضٍ وانحلالٍ قد دعت زعماء الإصلاح الاجتماعي إلى تشخيص الداء ووصف الدواء، وحَثّ الهمم على التخلص من تلك الرذائل, فإن ثمة عوامل أخرى نهضت بالنثر من حيث أسلوبه وألفاظه، وقد مر بنا ما قدمته حكومة إسماعيل للنهضة الأدبية من وسائل: كالمدارس والمكتبات العامة، وانتشار الصحف، وتشجيع المطابع على إيحاء تراث الآباء والأجداد، والقيام بترجمة شيء من أدب الغرب، وقد أضفى كل هذا على النثر طابعًا خاصًّا، فخلصه في الغالب من المحسنات البديعية التي كانت شائعةً في الكتابة الديوانية, وصرف الأدباء همهم إلى العناية بالمعاني لا إلى الألفاظ، اللهم إلّا في الموضوعات الأدبية البحتة، وخلا النثر من المبالغات الممجوجة, والأخيلة السخيفة، وانصرف عن المقدمات الطويلة التي كثيرًا ما تستهلك جهد الكاتب والقارئ جميعًا دون بلوغ الغرض الذي سيق له الكلام.
وكان من أثر هذا كذلك تغير طريقة الكتابة تبعًا لتغير طريقة التفكير: من تقصير الجمل، وفصل العبارات، وحبس كل واحدة منها على أداء معنًى واحد، واعتماد لون طريف في ترتيب الكلام وتبويبه، وسوق المقال في الغالب لأداء فكرة واحدة، واستحداث صيغ جديدة لأداء معانٍ جديدةٍ، والتجويز بكثير من المفردات لإصابة ما لا تطوله بأصل الوضع اللغوي.
ولقد رأيت من النماذج التي سقناها إليك أن موضوع هذا النثر، اجتماع، أو سياسة, أو أدب، ولقد تميز كل نوع من هذه الموضوعات بسماتٍ عامَّةٍ اقتضاها روح الموضوع وطريقة علاجه.