مَرَّ الشعر العربيُّ منذ عهد امرىء القيس إلى عصر البارودي في أطوار مختلفة: كان في الجاهلية وصدر الإسلام شعر الفطرة والسليقة المنبعثة عن الشعور والإلهام، تَعْرِضُ الحادثةُ أو المنظر للشاعر فينفعل ويتأثر، يلهج لسانه بما يختلج في فؤاده، وقد ينبعث من طيات ضميره لا بوحيً خارجيٍّ، هو في كلتا الحالتين لا يعمد إلى تنميق أو تزويق، أو يعتمد لفظًا بعينه، وإنما اللغة ملك يمينه وطوع لسانه، وكأنها بمفرداتها الزاخرة، ومعانيها المتباينة موضوعة في كفِّه يختار منها ما يكفي لأداء المعاني التي تتجاوب في خاطره، وكثيرًا ما يعمد إلى هذا الأداء بأوجز لفظٍ وأمتنه, دون إسهابٍ أو حشوٍ، ولا سيما إذا كان شاعرًا فحلًا طويل الباع في فن الشعر، وله درايةٌ بوجوه تصريف الكلام، ولذلك جاء الشعر العربيّ القديم صورة صادقة لمن قالوه، ولأمر ما قال نقاده منذ القرن الثاني:"الشعر ديوان العرب", ولم يكن العربيّ الأول يعمد إلى الخيال المجنح الذي يخلق الصور, ويغوص وراء المعاني في أعماق الفكر، وإنما يصور إحساسه وشعوره دون تزيد أو نقصان، ودون فلسفة أو منطق، وقد كان دستورهم في ذلك قول أحدهم:
وكأن الشعر العربيّ حينذاك بيت مشيد بالحجارة المتينة العارية عن الزخرف والطلاء، ويروعك بسذاجته وشموخه ومتانته، وفي السذاجة جمال الفطرة.
ثم أخذ العرب بنصيبٍ غير قليلٍ من حضارة الأمم التي فتحوا بلادها، وألفوا أنواعًا من العيش، وألوانًا من الحياة ونظام الحكم، لم يعرفوها من قبل، شاهدوا مناظر جديدةً اختمرت في عقولهم زمنًا، واطلعوا على ثقافاتٍ متباينةٍ؛ من يونانية, وفارسية, وهندية, ونبطية, وما شاكل هذا، وكان من الطبيعيّ أن يتأثروا بكل ذلك, كنا ننتظر أن يتطور الشعر العربيّ تطورًا جديدًا, خليقًا بهذا الانقلاب الكبير في حياة الأمة العربية، وأن يحتذي العرب حذو الإغريق مثلًا في ملاحمهم وقصصهم ومسرحياتهم, ولكن ما طرأ على الشعر العربيّ لم يعد الشكل الظاهريّ، وظل البناء القديم، والقالب الموروث تصب فيه المعاني في العصر