وإذا أردت أن تقف على الروح التي تكمن من وراء هذا الأديب الحيّ، والتي بعثت في الشرق الإسلاميِّ كله حيويةً دافقةً، وهزته هزةً عنيفةً أيقظته من نومه الطويل، وعرَّفته كيف يطلب حقه من الأقوياء العتاة، وكيف يدفع عن نفسه جور الظلمة القساة، فاعلم أن الروح تمثلت في السيد جمال الدين الأفغاني: من يدين له الشرق الإسلاميّ بيقظته القومية والفكرية في العصر الحديث.
رجل فرد، استطاع بما أوتي من عزيمةٍ جبارةٍ تنهار أمامها العروش, وتزلزل الممالك، وتتقوض الحصون، وبما أوتي من فكرٍ نيِّرٍ مشرقٍ ملهمٍ, ينقشع أمام ضوئه الوهاج حندس الجهل وغياهب الظلم، وبما أوتي من لسان ذرب طلق، حادٍّ مطواع، يدفعه شعورٌ متقدٌ، وعاطفةٌ متأججةٌ، وإحساسٌ مرهفٌ، وحماسةٌ عارمةٌ, فيلهب بهذا اللسان، وذاك الشعور كل ما ينصت إليه، فيحيل البليد نشيطًا، والجبان جريئًا، والخامل مقدمًا؛ استطاع هذا الرجل وحده بهذه القوة أن يخلق قادةً وزعماء، وأن يكوّن جيلًا من الناس يسيرون بأممهم إلى حيث أمل السيد وصوب، فكان بعمله أقوى من الحكومات القومية الفتية.