وهكذا يأبى الله إلّا أن يضرب للناس أمثلةً على بالغ قدرته، وعظيم إعجازه في كل جيل, وقد مَرَّ بك ما قاله الشيخ محمد عبده عن حالة مصر قبل أن يهبط واديها جمال الدين، وكيف أن بعثات محمد علي وإصلاحاته ونشاط إسماعيل وتقديراته، واطلاع بعض شباب مصر وشيوخها على حضارات الأمم الأوربية وغيرها لم يؤت ثمره، ولم يبعث في الأمة هذه الروح المتوثبة، ولم يحرك خامد العزائم، وينصب المثل العليا أمام الشعوب تهدف إليها في سيرها, وتحث الخطى نحوها، وإنما وجد ذلك كله على يد جمال الدين، فأي رجل كان هو؟
شعلة متقدة من الذكاء، وسرعة الخاطر، وقوة العارضة, شديد الرغبة في الإصلاح، وإنهاض الأمم الإسلامية، وتحطيم الأغلال والقيود التي جعلتها في مسغبةٍ ومذلةٍ وجهلٍ ومرضٍ وانحلالٍ، كان ثورةً عنيفةً على الظلم، والطغيان والجبروت؛ قابله السلطان عبد الحميد الطاغية في "يلدز" فطلب منه أن يكف عن هجماته على شاه العجم، فال السيد:"إني لأجلك قد عفوت عنه"، فيرتاع السلطان لهذه الكلمة الجريئة، عفا "السيد" عن الشاه ذي الحول والسلطان، أجل؟ فالسيد أقوى منه بأسًا, وأعظم قدرًا, وأقدر على النكاية، إنه حربٌ شعواء تطوح بالتيجان, تدك العروش.
ويجلس جمال الدين بحضرة عبد الحميد، وهو يداعب مسبحته غير حافلٍ بمن تعودت الأبصار أن تخشع في مجلسه، وتطأطئ الرءوس فرقًا ورعبًا منه, ونبهه إلى هذا كبيرٌ من رجال الحاشية بعد مغادرة عبد الحميد للمجلس, فقال له:"إن السلطان يلعب بمستقبل الملايين من الأمة، أفلا يحق لجمال الدين أن يلعب بسبحته كما يشاء؟ " فيرتاع الرجل، ويهرب من سماعه هذه الكلمة التي لا يجرؤ أي إنسان أن يرفع بمثلها, أو بما هو أقل منها صوتًا في البلاد الإسلامية.