للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الفصل الرابع: الشعر بعد البارودي]

...

الفصل الرابع: شعر بعد البارودي

وثب البارودي بالشعر وثبة عالية ردت إليه ديباجته المشرقة المتينة، وأغراضه الشريفة، ومعانيه السامية، وحررته -كما ذكرنا- من الغثاثة والركة، وقود البديع المتصنع وحلاه المسترذلة، وكان للبارودي مدرسة قوية تتلمذ عليه فيها شعراء نجباء، فجاروه في متانة أسلوبه والبعد عن مظاهر الضعف، واختلفوا بعد ذلك عن أستاذهم تبعًا لاختلاف ثقافتهم، ومواهبهم الشعرية وتأثرهم بأحداث زمانهم.

كثر عدد الشعراء بمصر في مستهل القرن العشرين، والربع الأول منه، وقد تباينوا حظًّا في الشهرة وإدراك المجد، وخلفوا لنا جميعًا تراثًا زاخرًا بالثروة الأدبية، جعل مصر في مقدمة الأمم العربية في الشعر، وقد تضافرت عدة عوامل عامة على تجويدهم، وبروزهم ذكرناها آنفًا؛ وخير شعراء العصر الحديث هم المخضرمون الذين أدركوا القرن التاسع عشر، وشهدوا النهضة في مستهلها، وتثقفوا ثقافة عربية قوية في بدء نشأتهم، ثم عاشوا في القرن العشرين ردحًا من الزمن، وشهدوا الوثبات الوطنية الرائعة والأحداث المحلية المثيرة، والتطور العلمي فكرًا ومادة.

وإذا نظرنا إلى الشعر في هذه الحقبة نظرة عامة من حيث أغراضه نجد بعض القديم منها قد اندثر، وعفى عليها الزمن، وبعضها قد تجددت معانيه، ودبت فيه روح جديدة، وبعضها قد ابتكر، ولم يعرف عنه العرب الأولون شيئًا.

فمن الأغراض التي كانت رائجة في أواخر القرن الماضي وأوائل القرن العشرين، وكان لها شأن كبير في شهرة الشاعر، وحظه من المجد -المديح- ولا نجد شاعرًا مخضرمًا لم يمدح؛ وكانت جهات المديح متعددة، فالخليفة في الأستانة ينتظر من شعراء العربية المسلمين -بل وغير المسلمين- أن يرفعوا إليه مدائحهم ويصفونه فيها بكل جليل عظيم من المكرمات وهو عنها عار ومنها براء، والأمير في مصر قد جعل له شاعرًا خاصًّا يتغنى بأعماله ويشيد بذكره في كل مناسبة، والوزراء والعظماء ينتظرون من الشعراء مثل هذا المديح وقد غالى

<<  <  ج: ص:  >  >>