للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الشعراء في مديحهم، وساروا فيه على سنن الأقدمين من افتتاح القصائد بالغزل المتكلف، ثم وصف الممدوح بالكرم والشجاعة وغير ذلك من الصفات التي استنفد شعراء الماضي كل معانيها. ولقد كان هذا الغرض هدفًا لهجمات النقاد المريرة، ولوم الشعراء لومًا شديدًا على عكوفهم عليه في عصر يجب أن يتطلع فيه الشاعر إلى الشعب لا إلى الأمراء والخلفاء، ويجب أن يبنى مجده على شاعريته ومواهبه باستنباط المعاني الجديدة، ومجاراة الحياة التي يعيش فيها، لا على التمسح بأعتاب الملوك والأمراء، وبنظراته العامة إلى الإنسانية لا بنظراته الفردية المحلية، وقد أثمرت هذه النقدات ثمرتها، وانصرف معظم الشعراء الذين كلفوا بالمديح الشخصي حينًا إلى غيره من أغراض الشعر، وإذا مدحوا فلبطولة فائقة، أو لغرض شعبي عام، أو لعمل وطني جليل، أو ذهبوا إلى التاريخ يستوحون أمجادهم ومفاخرهم والمدح كما يقول الرافعي١: "إذا لم يكن بابًا من التاريخ الصحيح لم يدل على سمو نفس الممدوح بل على نفس المادح، وتراه مدحًا حين يتلى على سامعه، ولكنه ذم حين يعزى إلى قائله، وما ابتليت لغة من اللغات بالمديح والرثاء والهجاء ما ابتليت هذه اللغة العربية".

ومن الأغراض التي أماتها استنكار النقاد، والعرف العام، والحياة العصرية وما فيها من قوانين مدنية تعاقب المعتدين على أعراض الناس، النهاشين لها: الهجاء. ولم يبق منه إلا مداعبات لطيفة فيها تهكم وسخرية وتصوير، لا تتناول المحارم والأعراض، ولا تقذع ولا تفحش، وإنما تعتمد على النكتة اللاذعة، والتصوير البارع، وإذا احتدم الهجاء بين الشعراء أفحشوا ولكنهم يستحيون من تدوينه وإنما يتناقله الرواة شفاها، وكأنهم يخشون أن يؤثر عنهم في عصرنا هذا.

ومن الأغراض التي كادت تندر: الحماسة، وإذا كان البارودي قد أبدع في الحماسة وأعادها قوية مشبوبة الأوار، لماعة السيوف كما كانت في عهد البطولة العربية الأولى، فإنه كان فارسًا خاض غمرات الحروب، وشهد المعامع وصيال


١ وحي القلم ج٣ ص٣٨٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>