رأينا عند الكلام على الترجمة، أن النهضة الحديثة ابتدأت، والبلاد في فقرٍ عقليٍّ شنيع، وظلامٍ مطبقٍ دامسٍ، وليس ثَمَّةَ إلّا بصيص ضئيل من النور يشع من الأزهر، بيد أن أهله كفوا على كتب الأقدمين يدرسونها بطريقتهم العقيمة، ولم يكونوا على علمٍ بما وصلت إليه أوروبا من علمٍ وحضارةٍ، بعد أن جاء نابليون، ومعه العلماء الأفذاذ والباحثون العظام، بل ظلَّ الأزهر كما هو غارقًا في أحلامه القديمة، وإن اعتمد عليه محمد علي في اختيار أعضاء البعثات منه أول الأمر, وأخذت النهضة تسير في طريقٍ مختلفةٍ عن طريق الأزهر، ولم يشأ محمد علي أن يغيِّرَ من نظم الأزهر شيئًا؛ بحيث توافق مقتضيات العصر، وحاجات النهوض، بل أنشأ نظامًا علميًّا جديدًا, هو ذلك النظام المدني في التعليم الذي نجني ثمرته اليوم، وذلك أن تغيير الأزهر وتحويله إلى النظام المدنيّ عملًا شاقًّا، وفيه قضاء على ما للأزهر من سمعةٍ دينيةٍ في نفوس المسلمين في كافة الأقطار، ثم فيه تحدٍّ للشعور الديني الذي كان مسيطرًا على أذهان الناس في الشرق حينذاك.
ولم ير محمد علي بدًّا من الاستعانة بعلماء الأزهر وكتب الأزهر في مدارسه الحديثة؛ إذ لم يكن هنالك علماء في غير الأزهر يصلحون لتدريس اللغة والدين، ولم تؤلف فيهما كتب على النهج الحديث، بل كانت الكتب الأزهرية -على ما بها من غموض، ومع أنها في مستوى أرقى من مستوى المدارس الحديثة- هي الشيء الوحيد في الميدان، ولذلك اضطرت حكومة محمد علي أن تقدم الأجرومية, والسنوسية، والألفية، والشيخ خالد، وغيرها من الكتب إلى مطبعة بولاق، فطبعت منها لأول مرةٍ في مصر آلافًا من النسخ, نشرتها في مدارسها الحديثة، وفي الأزهر نفسه.