للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والأخلاق, ولم يكن للفتى صبرٌ على القراءة, وسرعان ما مل المجلس، ولكن الشيخ درويشًا أخذه برفقٍ وتؤدة, وكان يفسِّرُ له ما يقرأ, فوجد الفتى فيما قرأ لذة، وانصرف عن اللهو، وعكف على قراءة الكتب، ويقول في ذلك: "وطلبت منه يومًا إبقاء الكتاب معي، فتركه، ومضيت أقراؤه، وكلما مررت بعبارةٍ لم أفهمها وضعت علامةً لأسأله عنها، إلى أن جاء وقت الظهر وعصيت في ذلك اليوم كل رغبة في اللعب، وهوًى ينازعني إلى البطالة، وعصر ذلك اليوم سألته عمَّا لم أفهمه, فأبان معناه على عادته، وظهر عليه الفرح بما تجدد عندي من الرغبة في المطالعة, والميل إلى الفهم, ولم يأت اليوم الخامس إلّا وقد صار أبغض شيءٍ إليَّ هو ما كنت أحبه من لهوٍ وفخفخةٍ وزهوٍ، وعاد أحب شيءٍ إليّ ما كنت أبغضه من مطالعة وفهم"١.

وهكذا استطاع الشيخ درويشًا أن يحل العقدة النفسية، ويعيد للفتى ثقته بنفسه وفي ذكائه، ويرغبه في العلم, وقد أفاد الفتى من ذلك درسًا لم ينسه مدى حياته، وهو أن الأزهر بحاجةٍ إلى الإصلاح الشامل في كتبه التي تدرس, وفي المعلمين الذين يقومون بالتدريس, وكان هذا أحد أهدافه في الحياة كما سترى.

وقد أفاد من الشيخ درويش درسًا آخر وقر في نفسه, وبدَّلَ من قيم الأشخاص والناس عنده, فلم يعد يهتم بالتفوق الماديّ والغنى والجاه، بل علمه أن الإنسان الكامل في هذه الحياة هو من أمن وعمل صالحًا سواء كان غنيًّا أو فقيرًا، وعلمه كذلك أن الإسلام الصحيح يتنافى مع الأخلاق المنحلة والفساد؛ لأنه عقيدة وعمل، لا ألفاظ تقال، ثم عَلَّمَه كذلك أن الإسلام دينٌ سهلٌ سمحٌ، وأن مصدره الذي يجب أن يؤخذ منه هو القرآن وحده٢.

ظلت هذه الدروس التي تلقاها في صباه تنمو وتترعرع في نفسه, حتى صارت مبدأ يسعى إليه وغاية يصبوا إلى تحقيقها.


١ وبهذا برهن الشيخ درويش في قريته على أنه أقدر من علماء الأزهر في هداية الطلاب وتحبيبهم في القراءة, ولقد كان مشايخ الصوفية في الماضي رسل هداية وتبشير, وعلى أيديهم أسلم كثير من وثنيي السودان وزنوج غابات إفريقية، وهم الذين نشروا الإسلام في كثير من بقاع الأرض, فأين منهم متصوفة زماننا الذين لا هَمَّ لهم إلّا ملء البطون وكنز الأموال.
٢ كان الشيح درويش تلميذًا للسنوسيين كما رأينا، وهؤلاء كانوا يتبعون مذهبًا شبيهًا بالمذهب الوهابي، وهو الرجوع بالإسلام إلى بساطته الأولى، متجنبين البدع وتفسيرات المتأخرين وزياداتهم في العقائد والفروع.

<<  <  ج: ص:  >  >>