كانت هذه حال الأزهر العلمية حين وفد إليه محمد عبده، ناهيك بالقذارة التي كانت تلوث المسجد وصحنه، ودورة مياهه وأروقته، والفوضى الخلقية التي كانت سائدةً بين طلابه, وأخذ الشيح محمد عبده يدرس العلوم المتداولة بالأزهر حينذاك؛ من نحو وفقه وتفسير، وأما العلوم الحديثة فلم يكن يسمع عنها الأزهر ورجاله، ومن يتعرض لها فهو كافرٌ في عرفهم, مارق عن جادة الدين.
وكان الشيح درويش حينما يعود الطالب الفتى يسأله عمَّا درس بالأزهر في عامه, بعد أن يستمع إليه قليلًا يسأله: ما درست المنطق؟ وما درست الحساب؟ وما درست الهندسة؟ فيجيب الشيح محمد عبده بأن هذه الدروس لا يرى الأزهريون تعليمها, فيقرر له هذا الصوفيّ المنزوي في قريته بأن كل العلوم يجب أن تعلم، وعلى الطالب أن يسعى إليها في كل مكان، ويقول له: "إن الله هو العليم الحكيم, ولاعلم يفوق علمه وحكمته، وإن أعدى أعداء الحكيم هو السفيه! وما تقرب أحد إلى الله بأفضل من العلم والحكمة، فلا شيء من العلم بممقوت عند الله، لا شيء من الجهل بمحمود لديه إلّا ما يسميه بعض الناس علمًا، وليس في الحقيقة بعلم؛ كالسحر, والشعوذة, ونحوهما, إذا قصد من تحصيلهما الإضرار بالناس, فأي رجل كان الشيح درويش هذا؟ وعلى أي حال من الجهل كان الأزهر؟
التمس الشيح محمد عبده بعض هذه الدروس التي وجهها إليه مرشده عند الشيح حسن الطويل١، بيد أن هذه الدروس لم تشبع نهم نفسه، على الرغم من طرافتها، وذكاء مدرسها, وسعة مداركه، وإنما كانت مثيرة لنفس الشيح محمد عبده، تبعث فيها الرغبة إلى الاستقراء والتعمق والوصول إلى الحقائق الواضحة
١ وكان الشيح حسن الطويل من الشخصيات الفذة في عصره، ذا ذكاء حادٍّ ومعرفةٍ بالرياضيات، وكان مدرسًا بدار العلوم، وقد بلغ من مهارته في الرياضيات أن كان يحل لطلبتها ما أشكل عليهم من تمرينات الهندسة، وكان على معرفة بكتب الفلسفة القديمة, وبالدنيا والسياسة, وكان ذا شجاعة في الكلام بما يعتقد لو حرم منصبه بدار العلوم، وزهد في الدنيا, حتى لا يهمه منها شيء، يلبس ثيابًا رخيصة، ويأكل قليلًا, ويدعى إلى موائد الأغنياء للإفطار في رمضان فيأكل من طبق الفول, ويزهد فيما عداه، ويطرد من دار لعلوم لكلامه في السياسة, فنيفق عليه صاحب مقهى بلدي، فلما عاد إلى عمله سلمه الشيح حسن الطويل مرتبه لينفق كما كان يفعل وهو مطرود، وكان يدرس في الأزهر الفلسفة والمنطق.