في هذا المقام، ولكن المقام أضيق من أن يتسع لكل هذا.
والآن وقبل أن أترك هذا الموضوع أرى لزامًا على وأنا أؤرخ لهذه الحقبة من الأدب الحديث وقد ذكرت فيما سبق سيئات "كرومر" في التعليم، أن أقول كلمة إنصاف، وأسجل هنا أثرًا حميدًا من آثاره، ألا وهو حرية الصحافة في عهد الاحتلال، أو بعبارة أدق في عهد كرومر خاصة.
وإذا كان للورد كرومر من حسنات تذكر من هذا السبيل فأول هذه الحسنات وأقواها أثرًا في الأدب هي إطلاقه الحرية التامة للمطبوعات، وعلى الأخص الصحافة المصرية، فلم يكمم أفواه الصحافة، أو يقيدها بقانون خاص، وتركها للقانون العام. وصل كرومر مصر سنة ١٨٨٣ والصحافة مقيدة بتلك القوانين الصارمة التي سنها إسماعيل، التي كان يسلطها سيفًا بتارًا على رءوس الصحفيين الذين ينتقدونه، ولا ننسى أنه أغلق جريدة التجارة التي أنشأها أديب إسحق، وأغلق أبا نضارة التي أنشأها يعقوب صنوع، وكاد يبطش بالأهرام لولا توسط الفرنسيين، ثم جاءت الثورة العرابية فشدت الرقابة على الأفكار وعلى تداولها ولا ننسى أن عبد الله نديم ظل مختفيًا ردحًا طويلًا من الزمن وأنه كان يخشى الظهور لما اشتهر به من مناوأته للخديو توفيق، وقد أغلق توفيق الأهرام سنة ١٨٨٤ لأنها كتبت مقالًا تقرر فيه أن الحكومة لا تخدم مصر وإنما تخدم إنجلترا، ولكن الضباط الملكفين بإغلاقها سرعان ما فتحوها بأمر اللورد كرومر واعتذروا لصاحبها رسميًّا.
كانت هذه القوانين تحتم على صاحب المطبعة دفع تأمين لا يقل عن مائة جنيه عند فتحها، ومن ينشئ مطبعة بدون ترخيص من الحكومة يغرم غرامة قد تصل إلى مائة وخمسين جنيهًا، ومن أراد أن يصدر كتابًا أو صحيفة لا بد له من عرضهما على قلم المطبوعات قبل أن يسمح له بإصدارها، وربما وجد من المضايقات وإحالة الأمر إلى وزير الداخلية، وتعويق إصدار الرخصة للصحيفة ما يجعله يعدل عن إصدارها١.
جاء كرومر وهذه القوانين قائمة ومعمول بها فعلًا، فلم يلعنها؛ ولكنه أهلمها، وترك الحرية للمطابع ولصحافة. فانتشرت المطابع انتشارًا عظيمًا حتى بلغ عددها في أواخر عهد الاحتلال ما يربو على ٢١٧ مطبعة في القاهرة
١ قانون المطبوعات سنة ١٨٨١- الهلال أول مارس ١٩٠١ ص ١٣٢١ - ٣.