وقد أسهمت مدرسة الحقوق في النهضة اللغوية والأدبية، فالمذكرات التي يعدها المحامون، ووكلاء النيابة، ولغة المرافعات والدفاع، والخطابة القانونية, قد تحسنت كثيرًا, وأدخلت في اللغة كلمات عديدة لم تكن مستعملةً من قبل.
وظلَّ رجال الحقوق والقانون يقودون مصر في ميدان السياسة حقبةً طويلةً من الزمن، ولكنَّهم وللأسف قد أثروا بعقليتهم الجدلية، وتبريتهم النظرية، وإصلاحاتهم القانونية اللفظية في حياة الأمة أثرًا بليغًا، وأبعدوها عن جادة الصواب، وألقوا بها في لجةِ الجدلِ والتناحر الحزبيِّ، والتشدق بالإصلاح, ونأوا بها عن الحياة العلمية المنتجة، وعلى هذا الموضوع ليس يعينا في كتابنا هذا، وإنما الذي يلفت أنظارنا هو نهضة الخطابة واللغة على يد من تَخَرَّجَ في هذه المدرسة, ولا سيما في عصرنا الحاضر.
ومن المدارس التي أنشئت في عهد إسماعيل، وكان لها أكبر الفضل في نهضة اللغة العربية والآداب, مدرسة دار العلوم, التي أشار بها علي مبارك، وافتتحها في سنة ١٨٧١, وقد رأينا ما كانت تعانيه مدارس محمد علي الحديثة من فقرٍ في الكتب المدرسية المنظمة, والمدرسين الأكفاء، الذين جمعوا بين العلم القديم والحديث، وعرفوا النظام، ونالوا حظًّا من طرق التربية, وأن ذلك الفقر التربويّ كان معوقًا لنهضة الآداب، بيد أن دار العلوم سدت هذا الفراغ، فقد كان طلبتها يُخْتَارون من متقدمي طلبة الأزهر ونابغيهم، وينشئون تنشئةً لغويةً وأدبيةً وشرعيةً, مع قسطٍ وفير من العلوم الحديثة، وطرق التربية.
ولقد أدت دار العلوم ورسالتها للأمة واللغة وللدين على الوجه الأكمل، فحفظت اللغة وصانتها، وقوتها وأيدت دعائمها، وأحيت مواتها، وجددت في أساليبها، ونفضت عن تراثها المجيد غبار القرون، وقدمته للناس رائعًا جذابًا، وعكف أبناؤها على تعليم النشء، وتقويم ألسنتهم, وتدريب أقلامهم، وتزويدهم بذخائر نفيسة من مختارات الشعر والنثر، وتقديم الكتب التي تنهج نهجًا علميًّا نفسيًّا يتمشى مع الطفل وملكاته وغرائزه، فكانت بحقٍّ خير ما أسدى علي مبارك من خدمات للغة العربية.