للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

"الكاتب الخيالي شاعر بلا قافية ولا بحر، وما القافية والبحر إلا ألوان وأصباغ تعرض للكلام فيما يعرض له من شئونه وأطواره، ولا علاقة بينهما وبين جوهره وحقيقته، ولولا أن غريزة في النفس أن يردد القائل ما يقول ويتغنى بما يردد ترويحًا عن نفسه، وتطريبًا لعاطفته ما نظم ناظم شعرًا، ولا روى عروضي بحرًا.

الشعر أمر وراء الأنغام والأوزان، وما النظم بالإضافة إليه إلا كالحلي في جيد الغانية الحسناء، أو الوشي في ثوب الديباج المعلم، فكما أن الغائية لا يحزنها عطل جيدها، والديباج لا يزري به أنه غير معلم كذلك الشعر لا يذهب بحسنه وروائه أنه غير منظوم ولا موزون".

وهذا رأي في غاية الجرأة من جهة محافظة لم يقل به حتى أولئك الذين ينادون اليوم بالشعر الحر، فإنهم يحرصون على وجود نوع من النغم ممثلًا في "التفعلية". ولعل المنفلوطي الكاتب العاطفي الذي اشتهر أول أمره بالشعر، ثم عدل عنه إلى النثر الفني حين وجده أضيق من أن يتسع لأفكاره وعواطفه، يريد أن يعد بنثره في زمرة الشعراء ولو لم يأت بالموزون المقفى. فالنغم شرط أساس في الشعر لا يسمى شعرًا إلا به، وهو صناعة دقيقة يظهر فيها الخلل اليسير، ولا يتحمل السخف والهذر.

ولعل المنفلوطي كذلك كان يظهر إلى هؤلاء النظامين الذين لا يعرفون ماهية الشعر وجوهره، ويأتون بالغث من الكلام، وهو وإن كان منظومًا إلا أنه خال من كل أركان الشعر، عار عن شروطه، وأصوله، فلا عاطفة ولا يخال ولا سمو تعبير، والصلة بين الشعر والوزن هي التي جعلت بعض الناس يدخلون في باب الشعر كل منظوم وإن خلا من سمات الشعر الأصيلة فيقول المنفلوطي: "تلك الصلة هي التي خلطت بينهما وعمت على كثير من الناس أمرهما، وهي التي أدخلت النظامين في عداد الشعراء وألقت عليهم جميعًا رداء واحدًا لا يستطيع معه التمييز بينها إلا لقليل من الناقدين المستبصرين، فأصبحنا نقرأ القصيدة ذات المائة بيت فلا نجد بيتًا، ونتصفح الديوان ذا المائة قصيدة فلا نعثر

<<  <  ج: ص:  >  >>