ومن فكاهاته التهكمية، ونقداته اللاذعة, ما قاله عن علم النحو وتعلمه، قال أحد التلميذين: ألا قبحًا لذوي الخواطر البليدة، والفطن البعيدة، وكيف لا يتعلم الناس كلهم فن النحو، وهو أسهل من حك ما تحت الحقو، أما والله لو كانت العلوم كلها مثله، لما غادرت منها كبيرًا ولا صغيرًا إلّا استوعبته كله، ولكني سمعت أن النحو إنما هو مفتاح العلوم، ولا يعد منها فلابد أن يكون غيره أصعب منه.
فقال له معلمه: لا تقل هكذا, بل النحو أساس العلوم، وكل العلوم مفتقرة إليه افتقار البناء إلى الأساس، ألَا ترى أن أهل بلادنا لا يعلمون سواه، ولا يعرجون على غيره؟ وعندهم أن من تَمَكَّن منه, فقد تَمَكَّن من معرفة خصائص الموجودات كلها, ولذلك لا يؤلفون إلّا فيه, وإنما يحصل فيه خلاف بنيهم في تقديم بعض الأبواب على بعض، وفي توضيح ما كان مبهمًا منه بأدلةٍ وشواهد، واختلفوا أيضًا في الشواهد، فمن قال إنها مفتعلة، ومن قائل إنها ضرورة أو شاذة، بيد أن المآل واحد، وهو أن العالم لا يسمى عالمًا إلّا إذا كان متمكنًا من النحو, مستقصيًا لجميع وقائعه، ولا يكاد يستتب أمر إلّا به, ولو قلت مثلًا: ضرب "زيد عمرو" من غير رفع زيد, ونصب عمرو، فما يكون ضربه حقًّا، ولا يصح الاعتماد على هذا الإخبار، فإن حقيقة فعل الضرب متوقفة على علم كون زيد مرفوعًا، وجميع اللغات التي ليس فيها علامات الرفع, فهي خالية عن الإفادة التامة، وإنما يفهم الناس بعضهم بعضًا من دون هذه العلامة, عن دربة واتفاق، فلا معول على كتبهم وإن كثرت، ولا على علومهم وإن جلت".
وأخذ المعلم يثني على النحو ثناءً عظيمًا، ويبين أنه هداه إلى مسألةٍ حار فيها حيرةً عجيبةً، فسأله تلميذه: وما هذه الفائدة يا أستاذي؟ قال: قد طالما كان يخامرني الريب في قضية خلود النفس، فكنت أميل إلى ما قالته الفلاسفة، ومن أنه كل ما كان له ابتداء فهو متناهٍ، فلما رأيت النحو له ابتداء، وليس له انتهاء قست النفس عليه فزال عني والحمد لله ذلك الإبهام" وفي هذا الكلام لذعات حادة للنحاة لا تخفى على اللبيب.