وأنه يغفر الذنوب جميعاً، ويغفر ما دون الشرك، وأن الصدقة يبطلها المن والأذى، وأن الرياء يبطل العمل، ونحو ذلك، فجعل للسيئات ما يوجب رفع عقابها، كما قد جعل للحسنات ما قد يبطل ثوابها، لكن ليس شيء يبطل جميع السيئات إلا التوبة، كما أنه ليس شيء يبطل جميع الحسنات إلا الردة، وبهذا يتبين أنا نشهد بأن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً على الإطلاق والعموم، ولا نشهد لمعين أنه في النار لأنا لا نعلم لحوق الوعيد له بعينه، لأن لحوق الوعيد بالمعين مشروط بشروط وانتفاء موانع، ونحن لا نعلم ثبوت الشروط وانتفاء الموانع في حقه. وفائدة هذا الوعيد أن هذا الذنب سبب مقتضٍ لهذا العذاب، والسبب قد يقف تأثيره على وجود شرطه وانتفاء مانعه.
يبين هذا أنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وآكل ثمنها، وثبت عنه في الصحيح أن رجلاً كان يكثر شرب الخمر فلعنه رجل فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله " فنهى عن لعن هذا المعين وهو مدمن الخمر لأنه يحب الله ورسوله، وقد لعن أولاً شاربها على العموم.
قال فمسألة تكفير أهل البدع والأهواء متفرعة على هذا الأصل فنبدأ بمذاهب الأئمة في ذلك قبل التنبيه على الحجة فنقول: المشهور من مذهب أحمد وعامة أئمة السنة تكفير الجهمية وهم المعطلة لصفات الرحمن، فإن قولهم صريح في مناقضة ما جاءت به الرسل من الكتاب، وحقيقة قولهم جحود الصانع وجحود ما أخبر به عن نفسه على لسان رسوله، بل وجميع الرسل، ولهذا قال عبد الله بن المبارك: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية. وقال غير واحد من الأئمة: أنهم أكفر من اليهود والنصارى، وبهذا كفروا من يقول أن القرآن مخلوق وأن الله لا يرى في الآخرة، وأن الله ليس على العرش، وأنه ليس له علم ولا قدرة ولا رحمة ولا غضب