ومما ينبغي أن يعلم أن مذهب سلف الأمة مع قولهم: الله خالق كل شيء وربيه ومليكه، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه على كل شيء قدير، وأنه هو الذي خلق العبد هلوعاً، إذا مسه الشر جزوعاً، وإذا مسه الخير منوعاً، ونحو ذلك - أن العبد فاعل حقيقة وله مشيئة وقدرة، قال تعالى (لمن شاء منكم أن يستقيم، وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين) وقال تعالى (إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا، وما تشاءون إلا أن يشاء الله) وقال تعالى (إن هذه تذكرة فمن شاء ذكره، وما يذكرون إلا أن يشاء الله هو أهل التقوى وأهل المغفرة) .
وهذا الموضع اضطرب فيه الخائضون في القدر، فقالت المعتزلة ونحوهم من النفاة: الكفر والفسوق والعصيان أفعال قبيحة والله منزه عن فعل القبيح باتفاق المسلمين فلا يكون فعلاً له.
وقال من رد عليهم من المائلين إلى الجبر (١) بل هي فعله وليست أفعالاً للعباد بل هي كسب للعبد: وقالوا: إن قدرة العبد لا تأثير لها في حدوث مقدورها ولا في صفة من صفاتها، وإن الله أجرى العادة بخلق مقدورها مقارناً لها، فيكون الفعل خلقاً من الله وإبداعاً وإحداثاً وكسباً من العبد لوقوعه مقارناً لقدرته، وقالوا: أن العبد ليس محدثاً لأفعاله ولا موجداً لها، ومع هذا فقد يقولون أنا لا نقول بالجبر المحض، بل نثبت للعبد قدرة حادثة والجبري المحض الذي لا يثبت للعبد قدرة.
وأخذوا يفرقون بين الكسب الذي أثبتوه بين الخلق، فقالوا: الكسب عبارة عن اقتران المقدور بالقدرة الحادثة، والخلق هو المقدور بالقادرة القديمة، وقالوا: أيضاً الكسب هو الفعل القائم بمحل القدرة عليه والخلق هو الفعل الخارج عن محل القدرة عليه.
فقال لهم الناس: هذا لا يوجب فرقاً بين كون العبد كسب وبين كونه فعل وأوجد وصنع وعمل ونحو ذلك، فإن فعله وإحداثه وعمله وصنعه