يقع بين كل ملزوم ولازمه، ويقع بين المقدور والقدرة، فليس جعل هذا مؤثراً في هذا الباب بأولى من العكس. ويقع بين المعلول وعلته المنفصلة عنه مع أن قدرة العباد عنده لا يتجاوز بمحلها. ولهذا فر القاضي أبو بكر إلى قول وأبو إسحاق الإسفرائيني إلى قول وأبو المعالي الجويني إلى قول، لما رأوا في هذا القول من التناقض. والكلام على هذا مبسوط في موضعه والمقصود هنا التنبيه.
ومن النكت في هذا الباب أن لفظ التأثير ولفظ الجبر ولفظ الرزق ونحو ذلك ألفاظ مجملة، فإذا قال القائل هل قدرة العبد مؤثرة في مقدورها أم لا؟ قيل له أولاً لفظ القدرة يتناول نوعين:(أحدهما) القدرة الشرعية المصححة للفعل التي هي مناط الأمر والنهي (والثاني) القدرة القدرية الموجبة للفعل التي هي مقارنة للمقدور لا يتأخر عنها. فالأولى هي المذكورة في قوله تعالى (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) فإن هذه الاستطاعة لو كانت هي المقارنة للفعل لم يجب حج البيت إلا على من حج، فلا يكون من لم يحجج عاصياً بترك الحج، سواء كان له زاد وراحلة وهو قادر على الحج أو لم يكن. وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين " صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنب " وكذا قوله تعالى (فاتقوا الله ما استطعتم) وقوله صلى الله عليه وسلم " إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم " لو أراد استطاعة لا تكون إلا مع الفعل لكان قد قال فافعلوا منه ما تفعلون، فلا يكون من لم يفعل شيئاً عاصياً له. وهذه الاستطاعة المذكورة في كتب الفقه ولسان العموم.
والناس متنازعون في مسمى الاستطاعة والقدرة، فمنهم من لا يثبت استطاعة إلا ما قارن الفعل. وتجد كثيراً من الفقهاء يتناقضون فإذا خاضوا مع من يقول من المتكلمين المثبتين للقدر أن الاستطاعة لا تكون إلا مع الفعل وافقوهم على ذلك، وإذا خاضوا في الفقه أثبتوا الاستطاعة المتقدمة التي هي مناط الأمر والنهي.