للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إثبات الصانع، ولا ريب أن كثيراً من متكلمة الإثبات القائلين بالقدر سلموا للمعتزلة أن القادر المختار يمكنه ترجيح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح، وقالوا في مسئلة إحداث العالم أن القادر المختار أو الإرادة القديمة التي نسبتها إلى جميع الحوادث والأزمنة نسبة واحدة رجحت أنواعاً من الممكنات في الوقت الذي رجحته بلا حدوث سبب اقتضى الرجحان، وادعوا أن القادر المختار يمكنه الترجيح بلا مرجح أو الإرادة القديمة ترجح بلا مرجح آخر، فاعترض عليهم هناك من نازعهم من أهل الملل والفلاسفة القائلين بأن الله لم يحدث الحوادث بأفعال تقوم بنفسه، وإن الله خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام. والقائلين بقدم العالم قالوا: هذا الذي قلتموه معلوم الفساد بالضرورة، وتجويز هذا يقتضي جواز حدوث الحوادث بلا سبب، والترجيح بلا مرجح، وذلك يسد باب إثبات الصانع.

ثم أن هؤلاء المثبتين للقدر احتجوا بهذه الحجة على نفاة القدر، وقالوا: حدوث فعل العبد بعد أن لم يكن لا بد له من محدث مرجح تام غير العبد، فإن ما كان من العبد فهو محدث، وعند وجود ذلك المحدث المرجح التام يجب وجود فعل العبد، وهذا الذي قالوه حق وهو حجة قاطعة على القدرية، لكنهم نقضوه وتناقضوا فيه في فعل الرب تبارك وتعالى، وادعوا هناك أن البديهية فرقت بين فعل القادر وبين الموجب بالذات، فإن كان هذا الفرق صحيحاً بطلت حجتهم على المعتزلة ولم تبطل قول القدرية، وإن كان باطلاً بطل قولهم في إحداث الله وفعله للعالم، وهذا هو الباطل في نفس الأمر، فإن القول بأن الممكن لا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح تام أمر معلوم بالفطرة الضرورية لا يمكن القدح فيه، وهو عام لا تخصيص فيه، فالفرق المذكور باطل، وذلك يبطل قولهم بأن خلق العالم هو العالم، وأنه حدث بعد أن لم يكن بغير سبب حادث.

<<  <  ج: ص:  >  >>