جابرة وقدرة قاسرة، فلا ريب تتعطل قواهم، ويفقدون ثمرة ما وهبهم الله من المدارك والقوى، وتنمحي من خواطرهم داعية السعي والكسب، وأجدر بهم بعد ذلك أن يتحولوا من عالم الوجود إلى عالم العدم!!
"وهكذا ظنت طائفة من الإفرنج، وذهب مذهبها كثيرون من ضعاف العقول في المشرق، ولست أخشى أن أقول: كذب الظان، وأخطأ الواهم، وبطل الزاعم، وافتروا على الله والمسلمين كذبا, لا يوجد مسلم في هذا الوقت من سني، وشيعي، وإسماعيلي، وزيدي، ووهابي، وخارجي يرى مذهب "الجبر" المحض، ويعتقد سلب الاختيار عن نفسه بالمرة. بل كل من هذه الطوائف المسلمة يعتقدون بأن لهم جزءا اختيارايا في أعمالهم، ويسمى "الكسب" وهو مناط الثواب والعقاب عند جميعهم، وأنهم محاسبون بما وهبهم الله من هذا الجزء الاختياري، ومطالبون بامتثال جميع الأوامر الإلهية، والنواحي الربانية الداعية إلى كل خير، الهادية إلى كل فلاح، وإن هذا النوع من الاختيار هو مورد التكليف الشرعي، وبه تتم الحكمة والعدل.
"نعم كان بين المسلمين طائفة تسمى "الجبرية" وذهبت إلى أن الإنسان مضطر في جميع أفعاله اضطرارا لا يشوبه اختيار، وزعمت أن لا فرق بين أن يحرك الشخص فكه للأكل والمضغ، وبين أن يتحرك بقفقفة البرد عند شدته!! ومذهب هذه الطائفة يعده المسلمون من منازع السلطة الفاسدة، وقد انقرض أرباب هذه المذاهب في أواخر القرن الرابع من الهجرة.
وليس الاعتقاد بالقضاء والقدر، هو عين الاعتقاد بالجبر، ولا من مقتضيات ذلك ما ظنه أولئك الواهمون. الاعتقاد بالقضاء: يؤيده الدليل القاطع، بل ترشد إليه الفطرة، ويسهل على من له فكر أن يلتفت إلى أن كل حادث له سبب يقارنه في الزمان، وأنه لا يرى من سلسلة الأسباب إلا ما هو حاضر لديه، ولا يعلم ماضيها إلا مبدع نظامها، وأن لكل منها مدخلا ظاهرا فيما بعده بتقدير العزيز العليم، وإرادة الإنسان إنما هي حلقة من حلقات تلك السلسلة. وليست الإرادة إلا أثرا من آثار الإدراك، والإدراك انفعال النفس بما يعرض على الحواس وشعورها بما أودع في الفطرة من الحاجات. فلظواهر الكون من السلطة على الفكر والإرادة ما لا ينكره أبله، فضلا عن عاقل. وأن مبدأ هذه الأسباب التي ترى في الظاهرة مؤثرة: إنما هو بيد مدبر الكون الأعظم، الذي أبدع الأشياء على وفق حكمته، وجعل كل حادث تابعا لشبهه، كأنه جزء له، خصوصا في العالم الإنساني.