للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وليس في الإسلام لعنة أبدية.. ولفظ الأبدية الذي جاء في بعض الآيات وصفا للنار، يفسره القرآن بأنه حقبة من الزمان {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} ١ والزمان لا يمكن أن يكون مقطوع النسبة إلى تطور الشخصية انقطاعا تاما. فالخلق ينزع إلى الاستدامة، وتكييفه من جديد يقتضي زمانا. وعلى هذا فالنار كما يصورها القرآن ليست هاوية من عذاب مقيم يسلطه إله منتقم، بل هي تجربة للتقويم، قد تجعل النفس القاسية المتحجرة تحس مرة أخرى بنفحات حية من رضوان الله؛ وليست الجنة كذلك إجازة أو عطلة، فالحياة واحدة ومتصلة، والإنسان دائما قدما، فيتلقى على الدوام نورا جديدا من الحق غير المتناهي الذي هو: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} ٢. ومن يتلقى نور الهداية الإلهية ليس متلقيا سلبيا فحسب؛ لأن كل فعل لنفس حرة يخلق موقفا جديدا، وبذلك يتيح فرصا جديدة تتجلى فيها قدرته على الإيجاد"٣.

وبهذا الاتصال في الحياة الإنسانية، رفع "إقبال" الفجوة بين "الدنيا" و"الآخرة" وجعل الحياة الإنسانية خط سير لا ينهيه الزمان، ومجال عمل مستمر متجدد.

وما أتى به الإسلام من عقائد البعث، والحشر، والبرزخ، مما يفهم منها أنها تصور حلقة في تاريخ الوجود، تنتهي بها حياة وتبتدئ بها حياة ثانية, ليس إلا تصويرا لمرحلة ابتلاء، وليس إلا إحصاء لأعمال الإنسان السابقة يعقبها استئناف سير الحياة وحركة العمل الإنساني من جديد.

وما أتى به أيضا من عقائد مثل الجنة والنار، مما يفهم منها أنها تحدد مكان حياة أخرى مستقلة تماما عما مضى في حياة الإنسان الدنيا, ليست أيضا إلا تصويرا لذلك الشعور الإنساني الذي يصحب نوع النتيجة التي أتى بها الإحصاء في مرحلة ما قبل استئناف السير وحركة العمل في دائرة الإنسان، والجنة ليست إلا شعور الإنسان بالبقاء، والفوز في الكفاح الماضي، والنار ليست أيضا إلا شعور الإنسان بخيبة أمله وفشله في هذا الكفاح السابق ... ومعنى ذلك أنه يجوز للإنسان الذي فشل فيما مضى أن يفوز في كفاحه المستأنف، فيشعر بالبقاء والخلود، أو تكون له "الجنة" من جديد، وخيبة الأمل إذن موقوتة، والنار إذن ليست أبدية، إذ هي لمدة ما.


١ النبأ: ٢٣.
٢ الرحمن: ٢٩.
٣ المصدر السابق: ص١٤١.

<<  <   >  >>