للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ركاما من مادية بحتة شاغلة للفراغ، بل هي بناء من حوادث أو منهج منتظم من السلوك وهي بوصفها هذا، أساسية بالنسبة للذات الأولى، فالطبيعة بالنسبة للذات الإلهية كالصفة بالنسبة للنفس الإنسانية، وهي في التعبير القرآني الرائع: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} ١. وعلى هذا، فإن الرأي الذي اصطنعناه يضفي على علوم الطبيعة معنى روحيا جديدًا: فالعلم بالطبيعة هو العلم بسنة الله، ونحن في ملاحظتنا للطبيعة إنما نسعى في الحقيقة وراء نوع من الاتصال الوثيق بالذات المطلقة ... وما هذا إلا صورة أخرى من صور العبادة"٢.

ويزيد "إقبال" توضيحا عدم "غيرية" العالم الطبيعي لذات الله، فيما يقوله هنا:

"والسؤال الذي يطلب منا أن نجيب عنه حقا هو: هل العالم يواجه الذات الإلهية بوصفه "غيرا" لها، وبينهما فراغ مكاني يتوسط بين الذات وبين هذا "الغير"؟؟ والجواب عن هذا: هو أنه بالنسبة للذات الإلهية، لا يوجد خلق بمعنى حادث معين له "قبل" وله "بعد"، فالعالم لا يمكن أن يعد حقيقة مستقلة الوجود مقابلة للذات الإلهية, ولو أننا نظرنا إلى الأمر كذلك. لأصبحت الذات الإلهية والكون منفصلتين، تقابل إحداهما الأخرى


= إن نظرية النسبية التي أدمجت الزمان في "الزمان المكاني" قد زعزعت معنى "الجوهر" كما اصطلح عليه السلف، أكثر مما زعزعه جدل الفلاسفة كله، فالمادة للإدراك العادي "هو الإدراك الفلسفي القديم" شيء يلبث في زمان ويتحرك في مكان، ولكن النسبية في الطبيعيات الحديثة لا تقر هذا الرأي، فالقطعة من المادة ليست شيئا ثابتا له أحوال متغايرة، بل أصبحت مجموعة حوادث مرتبطة بعضها ببعض وبهذا ذهبت صلابة المادة التي قيل بها قديما، وذهبت معنى الخصائص التي كانت تجعلها تبدو في نظر المادي شيئا أقوى في حقيقته من الأفكار التي تجول في العقل، وعلى هذا، فالطبيعة -طبقا لرأي الأستاذ Whitehad- ليست شيئا قارًا، يقوم في خلاء لا حركة فيه، بل هي تركيب من حوادث، لها خصيصة التدفق والإيجاد الدائمين، غير أن الفكر يقطع هذا التكريب إلى أشياء ساكنة، منعزلة بعضها عن بعض، وينشأ عن علاقة بعضها ببعض تصور المكان والزمان.
١ الفتح: ٢٣.
٢ المصدر السابق: ص٢٦٧.

<<  <   >  >>