ولها على ابن الخطيب أياد لا تنسى، فكان عليه أن يوفيها حقها، وأن يعطيها مستحقها، فيحلها- من وصفه- مكانتها اللائقة، ولكن هذا لا يمنعه- كمؤرخ صادق- من أن يبرز لنا بعض عيوبها، سواء فى طقسها الشتوى، وبردها الذي «يمنع الشفاه من رد التحيات» ، أو الاسعار التى «معيارها يشعر بالترهات» ، وجفاف طباع بعض أهلها، الذي يصل الى درجة «سوء الجوار، وجفاء الزوار، ونذالة الديار» ، فهذا المسلك من ابن الخطيب نحو المدن فى وصفها يعطينا فكرة عن صدق قلمه، وتحرره من أى قيد، فغرناطة- وان كانت مقامه بجوار مخدوميه بنى الاحمر، ومحل سلطانه وجاهه- الا أن ذلك كله لا يمنعه من اعطاء كل ذى حق حقه، وأنه فى هذا لا تأخذه لومة لائم.
لنستمع اليه فى شأن العاصمة النصرية، حين يستهل وصف حمرائها:
«كرسيها ظاهر الاشراف، مطل على الاطراف، وديوانها مكتوب بآيات الانفال والاعراف» ، وفى معرض موقع المدينة، يذكر لنا أن «هواءها صاف، وللانفاس مصاف. حجبت- الجنوب عنها- الجبال، فأمن الوبا والوبال، وأصبح ساكنها غير مبال، وفى جنة من النبال، وانفسحت للشمال، واستوفت الشروط على الكمال» ، كما يتحدث مشيدا بنهر شنيل، وفضله على جنات غرناطة ومروجها، فيقول «وانحدر منها (جبل سييرا نيفادا) مجاج الجليد على الرمال، وانبسط- بين يديها- المرج (فحص غرناطة) الذي نضرة النعيم لا تفارقه، ومدارى النسيم تفلى بها مفارقه. ريع من وادية بثعبان مبين، ان لدغ تلول شطه تلها للجبين، وولدت حيات المذانب عن الشمال واليمين، وقلد منها اللبات سلوكا تأتى من الحصباء بكل در ثمين، وترك الارض مخضرة، تغير من خضراء السماء ضرة، والازهار مفترة، والحياة الدنيا بزخرفها مغترة» ، ان هذه الروعة البيانية، ودقة التعابير البلاغية، جعلت الصورة تتجسم أمامنا، حتى لنكاد نلمس منها كل جانب.