ثم رجع الى المغرب مرة أخرى، ولكن منفيا مع سلطانه المخلوع المغنى بالله ابن الاحمر، وذلك فى محرم ٧٦١- ١٣٥٩ م، وفى هذه المرة مكث بالمغرب ثلاث سنوات تقريبا، كما أشرنا الى ذلك فى موضعه، وفى تلك الاثناء زار بعض المدن المغربية، ودون بعض رحلاته يومئذ فى كتابه المعروف باسم «نفاضة الجراب وعلالة الاغتراب» ، الذي وضعه بالمغرب مع بعض الكتب الاخرى، التى منها كتابنا «معيار الاختيار» .
وأخيرا استقر ابن الخطيب بالمغرب حينما فر من الاندلس، حيث شعر بما يدسه له خصومه عند السلطان الغنى بالله، على نحو ما هو معروف من تاريخ مأساة هذا الوزير، فوصل المغرب عام ٧٧٣ هـ- ١٣٧١ م، وبقى به حتى نكب وقتل عام ٧٧٦ هـ- ١٣٧٥ م.
فهذه ثلاث زيارات قام بها المؤلف للمغرب، سفيرا، فمنفيا، ففارا ناجيا بحياته أخيرا، وتعتبر فترة النفى- من بين هذه الزيارات الثلاث- فترة البحث والدرس والتأليف عند ابن الخطيب، فقد منح الرواتب وأقطع الاراضى، واستقرت نفسيته الى حد سمح له بمواصلة تآليفه.
أما المرة الاولى فكان وقتها أضيق من أن يتسع للتجوال عبر المدن المغربية، فهو حينئذ سفير منوط به أمر رسمى، وذو قيود وحدود مرسومة.
وأما فى المرة الاخيرة حيث استقر نهائيا بالمغرب، فنرجح أن ابن الخطيب لم يتجه كثيرا للبحث والتدوين، فقد كانت الهزات السياسية بالمغرب تتناوشه ذات اليمين وذات الشمال، بفضل مواصلة خصومه- بغرناطة- السعى فى القضاء عليه، وعلى رأسهم سلطانه القديم «الغنى بالله» والذي تأثر الى أبعد حد بسعاية هؤلاء الخصوم، ومع هذا فقد ألف ابن الخطيب ابان هذه الفترة كتابه «أعمال الاعلام، فيمن بويع قبل الاحتلام، من ملوك الاسلام» ، استجابة للظروف الجديدة التى أملت عليه اصدار هذا المؤلف.