للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الكَلام بذلك وتفارقُه إلى غيرهِ، فإنَّ من كانَ كذلكَ لم يمكِنْه الكلامُ إلاَّ مرّةً واحدةً، فإذا تكلَّمَ هذه المرَّة فارقَتْهُ صفتُهُ, لأنَّ الكلامَ خرَجَ منه وفارقَهُ، وبمفارقته زالتْ عنه الصّفة ولَحِقَتْ غيرَهُ، هذا كلامٌ لا يقوله مَن يَدري ما يقولُ، فإنَّ مَنْ وُصِفَ بالكلام على هذا المعنى موصوفٌ بالعَجْز عنه، وهو غيرُ متصوَّرٍ في حقّ الناطق المَخلوق على ضَعْفه، فكيف تصوَّرَهُ هؤلاء الضُّلاَّلُ في حقّ الله الذي ليسَ كمثلهِ شيءٌ، فإنَّه تعالى وصفَ نفسَه بأنَّه متكلمٌ بكلامٍ متعلقٍ بمَشيئتهِ وقُدْرتهِ، يُسْمِعُه من شاءَ من خلقهِ، متى شاءَ، وأنَّ كلماتِهِ تعالى لا تَنْفَدُ، ومن كان هذا وصْفُهُ لم تفارقْهُ صفَتُهُ بتكلّمهِ مرَّةً أو مرَّاتٍ، وكانَ كلُّ ما تكلَّمَ به منسوباً إليه لا إلى غيرِهِ.

قالَ الإِمام الحافظُ أبو الوليد الطَّيالِسيُّ: "القُرْآنُ كلامُ الله ليسَ ببائنٍ من الله" (٧٦).

وقال شيخ الإِسلام: "وإنَّ قولَ السَّلَف: (منه بدأ) لم يُريدوا به أنه فارقَ ذاتَهُ، وحَلَّ في غيره، فإنَّ كلامَ المخلوقِ، بل وسائرَ صفاتهِ لا تفارقُه وتَنْتَقِلُ إلى غيرِهِ، فكيفَ يجوزُ أنْ يفارقَ ذاتَ الله كلامُه أو غيرُهُ من صفاتِهِ" (٧٧).

قلتُ: قالَ الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة:٦] فالَّذي يسمَعُهُ المُشْرك المستجيرُ من القارئ إنَّما هو كلامُ الله المضافُ إليه لا إلى غيرهِ، فلو أن كلامَه بانَ منه


(٧٦) رواه أبو داود في "المسائل" ص: ٢٦٦ بسند صحيح عنه.
(٧٧) "مجموع الفتاوى" ١٢/ ٢٧٤ وانظر: ١٢/ ٥١٧ - ٥١٨، ٥٦١،٥٥٠.

<<  <   >  >>