يهوّنونَ من شأن الجَهمية، وربَّما استنكرَ بعضهُم على الأئمة الذين كفَّروهم، معَ أنه لم يَرِد عن عامَّةِ أئمَّةِ السَّلف إلاَّ تكفيرُهم -كما نقلَه عنهم ابنُ الطبري وغيره- وهؤلاء فيما أرى أحدُ رجُلَين:
إمَّا مبتدعٌ، مُحْتَرِقٌ في التَّجهّم والاعتزالِ، يُصِرُّ على أمْرٍ عَظيم يَهاب الحقَّ وسطوةَ أهلهِ، فلا يُصرِّحُ، وإنَّما يُشير ويُلمِّح.
وإمَّا جاهِلٌ، لم يَفْهَم اعتقادَ السَّلَفِ في كلام الله تعالى، وخافَ النَّظَرَ في ذلك -وَرَعاً- يَحْسَبُ أنَّه خَوْضٌ في الكلامِ الْمَذموم، فليسَ له إمامٌ يَقْتَدي به إلاَّ الواقفة الذين أنكَرَ الأئمَّةُ مذهبَهم.
أمَّا الأول فلا سلَّمة الله ولا عافاهُ، وكشفَ سترَهُ، وأظهرَ سوأتَهُ.
وأما الأخَر فليتَّقِ الله وليتعلَّم، وليدعْ ما حَسِبَه وَرَعاً، فوالله ما هو بالوَرَع المَشروع، فإنَّ الباطلَ موجودٌ وله دعاةٌ، وبدْعَة الجَهمية لَمْ تنفكَّ عن الناس، وليكْفِهِ الاقتداءُ بأعلام الأمَّةِ، ورُؤوسَ الأئمَّة، من بعد عصْرِ الصَّحابة وكبارِ التابعين، الذين عافاهم الله من هذا البَلاء، مثل: الثوريّ، ومالكٍ، والشَّافعي، وأحمد، وابن مَعين، والبُخاري.
ومِمَّن سبَقت الإِشارةُ إليهم صِنْفٌ حَمَلوا التكفيرَ في النُّصوص السَّالفةِ عن الأئمَّةِ ما يُشْبِهُها على الكُفْرِ الأصْغَر الذي لا يُفارَق به الدِّينُ، وهذا أيضًا من تَهوينهم لهذه القضية، وتَمْويههم على الناس، وإلَّا فإنَّ الكثيرَ من النُّصوص المذكورة وغيرِها صَريحةٌ في إخراجِهم من الإِسلام، ويجبُ أن يُحْمَلَ ما أطْلِقَ من ألفاظِ تكفيرهم على هذا المعنى الصَّريح، وأنا على يَقين أنَّ مَن فَهِمَ الاعتقادَ السَّليم الذي شرحناه في الباب الأول،