احتجاجهُم بقوله تعالى:{يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ}[البقرة: ٢٣٥] وما في معناه، فليسَ وارداً في مَحَلّ النِّزاع، لأنَّ الخلافَ بينَنا وبين الأشعرية إنَّما هو في مسمَّى القولِ والكلامِ، لا بقيامِ المَعاني في القلب.
وأمَّا احتجاجهُم بآية الإِكراهِ فشبيهٌ بهذا، فإنَّه لم يُسَمِّ ما في القَلْب كلاماً، وإنَّما قال:{وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} لأنَّه موضعُهُ ومَحَلُّه في الأصْلِ.
وتَسْميةُ ما في القَلْب من الإِيمان كَلاماً راجعٌ إلى أصْلِهم في الإِيمان بأنَّه التَّصديقُ القَلْبي، إذ هم فيه مُرْجئةٌ جَهميةٌ، وهو عندَ أهل السُّنَّة من السَّلَف والأئمَّةِ: تصديقُ القَلْب، وقولُ اللِّسان، وعمَلُ الجَوارح، حقيقةً في هذا جميعاً، فرفع الله الحرَجَ عن المُكْرَه رفعاً مؤقَّتاً للضَّرورة، تيسيراً عليه وتَخفيفاً، لا على أنَّ الإِيمانَ على الحقيقة هو تصديقُ القَلْب فقَط، فإنَّه لو كان كذلكَ لَمَا كان فَرْقٌ بين حال الإِكراه وعَدَمهِ، ففيم الرُّخْصَةُ إذاً؟
الأوَّل: أنَّه تعالى قالَ في سورة مريم [١٠]: {ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} والقصَّةُ واحدةٌ، فاستثنى في الموضِع الأول ولم يَسْتَثْنِ في الثاني، فدلَّ على أنَّه استثناءٌ منقطعٌ لا مُتَّصل، فيكونُ المعنى: آيتك ألاَّ تكلِّمَ النَّاسَ، لكن تَرْمِزُ لهم رَمْزاً، وهو قوله:{فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ}[مريم: ١١] هو الإِيحاءُ بالرَّمْز.