فجَعلوا الحُروفَ من صفةِ القراءة لا من صفةِ المَقروء, لأنَّ المقروءَ عندَهم قائمٌ بذاتِ الله، وهو الكلامُ النفسيُّ، والقراءةُ عبارةٌ عنه، وهي هذه الحُروفُ العربيَّةُ التي تَنْطِقُ بها الألسنةُ، وتحفَظُها القلوبُ، وتخطّها الأيدي في المَصاحف.
وهذا من أبعَد شيءٍ عن الحسّ السَّليم، فإنَّ العربَ وكلَّ أحدٍ لا يعرفُ الحروفَ إلاَّ من صفةِ الكلام، لا من صفَةِ المتكلِّم، وفِعْلُ المُتكلِّم إنَّما هو النُّطْقُ بها ورَفْعُ صوتهِ أو خفْضُه، وكتابَتُها، وحفظُها، ونحو ذلك مِمَّا هو فِعْلُ نفسهِ، وهذهِ المَعاني هي التي توصَف بالحُسْنِ والقُبْح، ويترتَّبُ عليها الثَّوابُ أو العقابُ.
أمَّا الحُروفُ التي قرأ بها النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- وبلَّغَها أمَّتَه فهي وحيُ الله وتنزيلُهُ وكلامُهُ الذي نزَلَ به جبريلُ من عندِه تعالى، ولقد نَزَلَ بها جبريلُ من عندِ الله تعالى على سَبْعَةِ أحْرُف تَخفيفاً على الأمة وتيسيراً، وكلّ ذلك كلامُهُ -عَزَّ وَجَلَّ- على الحقيقةِ.
ولقد حاول بعضُ مَن يوصَفُ بالتَّحقيق من رؤوس الأشعريَّة الإِكثارَ من الاستدلالِ من الكتاب والسُّنَّة على الفَرْق بين التَّلاوةِ والمَتْلوّ، ولكنَّها جَميعاً على مذهَبِ البُخاري رحمه الله الذي ذكَرْناه عنه، أمَّا على تفسير الأشعريةِ أنْفُسِهم في عَدِّ الحُروفِ العربيَّةِ من صفةِ القراءة لا من صفةِ المَقروء، فلَم يَقْدروا على الإِتيانِ بحُجَّةٍ واحدةٍ عليه يُعَوَّلُ عليها، سوى أصلِهم الفاسدِ الذي أبْطَلْناه فيما سمَّوْهُ بـ (الكلام النفسيّ).
وحديثُ أمّ سلمَةَ الذي ذكَروهُ حجْةٌ عليهم، فإنَّ النُّطْقَ بالحروفِ هنا غيرُ الحُروفِ، فقِراءةُ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- التي تَحْكِيها أمُّ سلَمة هنا هي نطقُهُ