للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

في الأزَل، ولا يزالُ، وإنَّما تكونُ الأشياءُ في الأوقات التي شاءَ الله فيها كَوْنَها، لا أنَّهُ يتجدَّدُ قولُه لما يُريدُ تكوينَه (كُنْ) ويُنْزِلُ على رسُلهِ العباراتِ عن كلامهِ، وهي المتجدِّدةُ الموصوفةُ بالابتداءِ والانتهاءِ والتَّقدُّم والتأخّرِ كالتَّوراة والإِنجيلِ والقُرآن، أمَّا الكلامُ القديمُ فثابتٌ لا يتَجَدَّدُ.

وجُمْلةُ هذه الأمورِ هي ما يُعَبَّر عنه بأنَّ كلامَ الله غيرُ متعلِّقٍ بمَشيئتهِ واختياره.

ولَمْ يَعْقِل القومُ أنَّ هذه صفةُ نَقْصٍ وعَجْز، لا تَليقُ بالمَخلوق الضَّعيف فكيف جَعَلوها لائقةً بربّهم تعالى وهو القدّوسُ السَّلامُ؟

وإنَّ مِمَّا اضْطَربوا فيه بسَبَب هذه البدعةِ الأمْرُ والنَّهيُ، فقال: الأمرُ والنَّهيُ وصْفان للكلام، والله لم يَزَلْ آمِراً ناهياً، ولا يَزالُ آمِراً ناهياً، كما أنَّه لا يَزالُ متكلِّماً، وهذا يَقْتضي القولَ بجواز خِطاب المَعْدومِ، بمعنى أنَّ الله خاطبَ العبادَ بالأمْرِ والنَّهي أزَلاً قبلَ خَلْقِ الخَلْق، أمْراً ونَهْياً لا أوَّلَ له، فافترقوا إزاءَ هذا فريقين:

الأوَّل: قالوا بجَوازِ خطابِ المَعْدومِ، فكلامُ الله لم يَزَلْ أمْراً ونَهْياً للمكلَّفينَ الذينَ خُلِقوا بعدَ ذلكَ، بشَرْط أنْ يَفْعَلوا ما أمِروا به بعدَ الوُجودِ والبلوغ ووفورِ العقلِ (٦٠).

والثاني: قالوا بعدَمِ جَوازِ خِطابِ المَعدوم قبْل خَلْق الخَلْق، فهؤلاء منهم لا يَصِفون الله بكونهِ آمِراً ناهياً، وإنَّما يقولونَ: صارَ كلامُهُ أمْراً ونَهْياً


(٦٠) "أصول الدين" لعبد القاهر ص: ١٠٨.

<<  <   >  >>