والَّذي يُحْمَل إنَّما هو المَصاحفُ الَّتي فيها القرآنُ، وتَعْليلُ النَّهْي عن السَّفَر بها بَيِّنٌ في الخَبَر، وهو الخَوْفُ مِنْ أنْ تنالَهُ أيدِي الكفَّار، فلا تُؤمَنُ منهم إهانَتُه، وهذا المعنى حقٌّ وصَوابٌ، لكنَّه عندَ أهلِ السُّنَّة والأئمَّة لأنَّ فيه كلامَ الله على الحَقيقةِ بألفاظهِ ومَعانيهِ، وهذا وجْهُ النَّهي عندَهم، أمَّا الأشعرية فَلأنَّ فيه العبارةَ عن كلامِ الله.
فجاءَ متأخِّروهُم وزادوا أنَّهُ مَخلوقٌ في اللَّوْحِ المَحْفوظِ، أو غيرِه، أو قَوْلُ جبريلَ، أو محمَّد -صلى الله عليه وسلم-، فهوَّنَ هذا مِنْ شأنِ المُصْحَفِ عندَهم، حتى فاضَلوا بينَه وبين رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، قالَ الباجوريُّ:"وهل القرآن بمعنى اللَّفظ المَقروء أفْضَل أو سيّدنا محمَّد -صلى الله عليه وسلم-؟ " فأشارَ إلى خِلافٍ عندَهم في ذلك، ثمَّ قالَ:"والحَقُّ أنَّه -صلى الله عليه وسلم- أفْضَلُ لأنَّه أفضلُ من كلّ مخلوقٍ"(٨٥).
قلتُ: سُبْحانكَ هذا بُهْتانٌ عَظيمٌ، أيُّ جُرْأةٍ هذه الَّتي تُؤدّي بأصْحابِها إلى جَعْلِ صِفَةِ الرَّبِّ تعالى أدْنى من المَخلوقِ -مع شَرَف المَخلوقِ-؟!!
بَلْ إنَّ بعضَهم لمَّا رأوا أنَّ لهذا القرآنَ الذي في المُصْحَف ليسَ كلامَ الله حقيقةً وإنَّما هو دَلالةٌ علَيهِ، رَأوْا أنَّ كلَّ المَخلوقاتِ سِواه أدلَّةٌ على الخالق وصفاتهِ، ومع ذلكَ فلا يَجِبُ احترامُها، وما دلَّ على الخالق أوْلى بالاحترام مِمَّا دلَّ على صِفَتهِ، وصَلَ بهم الحالُ حينئذٍ إلى أنْ قالوا في هذا القرآنِ العربيّ: ما هذا إلاَّ وَرَقٌ ومِدادٌ، فحَصَلَ بذلكَ شرٌّ أّعظمُ.