للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وأنتَ -وفَّقك الله- قَدْ تَعْجَبُ من هذه الحالِ الَّتي وصَل إليها بعضُ الأشعريةِ، وقد لا تُصَدِّقُ ذلكَ ابتداءٌ وتَسْتَنْكِرُه، مِن أجْل ما تراهُ مِنْ تظاهُرهم بتكريمِ المَصاحفِ، وتَعْظيمِها، وتَقْبيلها، والقيامِ لها حين الإِتيان بها، ولكنَّكَ حينَ تُدْرِكُ ما شَرَحْناهُ من اعتقادِهم، فليسَ يبعُدُ وقوعُ ذلك من سَفلَتِهم الذين لم يَقْدروا الله تعالى قَدْرَه.

ولهؤلاء السُّفَهاءِ سَلَفٌ في الاستهانةِ بالمُصْحفِ وعَدَمِ تَعْظيمهِ، ذلك هو الجَهْمُ بن صَفْوانَ -رأس الجَهميَّة- فقدْ قالَ أبو نُعَيْمٍ البَلْخِيُّ -وكانَ صدوقاً-:

كانَ رَجُلٌ من أهْلِ مَرْوٍ صديقاً لِجَهْم، ثمَّ قَطَعَه وجَفاهُ، فقيلَ له: لِمَ جَفَوْتَه؟ فقال: جاءَ منه ما لا يُحْتَملُ، قرأتُ يوماً آيةَ كذا وكذا، فقالَ: ما كانَ أظرف محمَّداً، فاحتملْتُها، ثمَّ قرأ سورة طه، فلمَّا قالَ: {الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} قال: أمَا والله لو وَجَدْتُ سَبيلاً إلى حَكِّها لَحَكَكْتُها من المُصْحَف، فاحْتَمَلْتُها، ثمَّ قرَأ سورةَ القَصَص، فلمَّا انتهى إلى ذِكْرِ موسى قال: ما هذا، ذكَرَ قصَّةً في مَوْضِع فلمْ يُتِمَّها، ثمَّ ذكَرَ ههُنا فلمْ يُتِمَّها، ثمَّ رَمى بالمُصْحَفِ منْ حجرِهِ برِجْلَيْهِ، فوثبتُ علَيه (٩٠).

وهذا المَعنى الذي تَقْشَعِر منه الجلودُ، وتنفرُ منه القُلوب، ويأباه دينُ المُسلمينَ، لم يكن عِنْدَ قُدَماء الأشعريَّة، والله تعالى أمرَ بالعَدْلِ، فإنَّ أولئكَ -على ما ذَكَرْنا عنهم من الاعتقادِ في القرآن العَظيم- إلاَّ أنَّهم كانوا


(٩٠) رواه البخاري في "خلق أفعال العباد" رقم (٧٠) وعبد الله بن أحمد في "السنَّة" رقم (١٩٠) وسنده صحيح.

<<  <   >  >>