قلتُ: وهذه مقالَةٌ جائرةٌ، تضمَّنَت الكَذِبَ على الأئمَّةِ، والإِمام أحمدَ بالخُصوص، فإنَّه رحمه الله لم يأتِ عنهُ مجرَّد إطلاقِ: القرآنُ غيرُ مَخلوق، وإنَّما نصَّ على إبطالِ كلام أسْلافِ الأشعريَّةِ الذين ظَهَروا في أواخر حياتهِ كالكَرابيسيّ وابن كُلاّبٍ، وهم الَلَّفْظيَّةُ النافيةُ الذين شرحتُ اعتقادَهم في الباب الثاني، بَل نصَّ على أنَّهم جَهْمية، ونصوصُهُ أبْيَنُ مِنْ أنْ تُفسَّرَ وتُفصَّل في ذلك، بل هو وسائرُ إخوانهِ من الأئمَّة أبْعَدُ الناسِ عن اعتقادِ اللفظيَّةِ الذينَ يَعْتَقدونَ أنَّ الألفاظَ القرآنيةَ مخلوقةٌ.
ولو كانَ الأمْرُ كما زَعَمْتُم أنَّ قولَ الأئمَّة: القرآنُ غيرُ مَخْلوق، سدّاً للذَّرِيعة، لئلاّ يُفهَم أنَّ الكلامَ النَّفسيَّ مَخلوقٌ، لكان هذا جَهْلاً منهم وعدَمَ فَهْم لأدنى مقاصدِ الشَّريعةِ -وحاشاهم من ذلك- لأنَّ الأمرَ على قولِكم يكونُ عندَ التَّحْقيق فَتْحاً لباب الذَّريعةِ لا سَدّاً له, لأنَّ اللَّبْسَ والتَّمْويهَ على الأمَّةِ بمقالةِ الأئمَّةِ: القرآنُ غيرُ مَخْلوق، أشدُّ وأعظمُ، وذلك لأنَّ الأمَّةَ أجْمَع تَتْبعُهم على هذه المقالةِ، والأمَّةُ لا تَعْرِفُ قَوْلَهم متوجّهاَّ إلاَّ إلى هذا القرآنِ الَّذي بين الدَّفتين، فيُضيفونَ الكلامَ المخلوقَ -عندَكم- لله، ويجعلونَه صفةٌ له، ويُكفِّرون مَن خالَفهم في ذلك تبَعاً لأئمَّتِهم، فهذا البابُ إذاً أحْوَجُ إلى السَّدِّ من باب الكَلام النَّفسي لِعِظَم البَلوى به، ولكنَّكم حُرِمْتُم التوفيق فلَمْ تَعُوا ما تَقولونَ، وهذا بعضُ ما تَسْتحقّونَه جزاءَ إعْراضِكم عن الوَحْي المَعْصوم، وإقبالِكم على الكَلام المَذموم.
وإضافةً لهذا فإنَّنا -معشر أهل السُّنَّة- نُمْهِلُكم أعمارَكم جَميعاً- وقد أمْهَلْناكم قُروناً- على أنَّ تَأتوا بنَقْلٍ صَحيحٍ أو ضعيفٍ عن أحَدٍ من الأئمَّة زمَنَ المعتزلةِ وقَبْلَه إلى عَهْدِ النبُوة، يُصَرِّحُ لكم أنَّ كلامَ الله معنى واحدٌ