للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وأما كونه يضعف البدن كالاستفراغ فذاك حكمة أخرى، فصار فيهما كالأكل والحيض، وهو في ذلك أبلغ منهما، فكان إفساده الصوم أعظم من إفساد الأكل والحيض.

فنذكر حكمة الحيض وجريان ذلك على وفق القياس، فنقول: إن الشرع جاء بالعدل في كل شيء، والإسراف في العبادات من الجور الذي نهى عنه الشارع، وأمر بالاقتصاد في العبادات؛ ولهذا أمر بتعجيل الفطر وتأخير السحور، ونهى عن الوصال، وقال: «أفضل الصيام وأعدل الصيام صيام داود عليه السلام، كان يصوم يوما ويفطر يوما، ولا يفر إذا لاقى» (١) ، فالعدل في العبادات من أكبر مقاصد الشارع؛ ولهذا قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم} الآية، فجعل تحريم الحلال من الاعتداء المخالف للعدل، وقال تعالى: {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا وأخذهم الربا وقد نهوا عنه} ، فلما كانوا ظالمين عوقبوا بأن حرمت عليهم الطيبات؛ بخلاف الأمة الوسط العدل فإنه أحل لهم الطيبات وحرم عليهم الخبائث (٢) .


(١) الحكمة في قوله: «ولا يفر إذا لاقى» هي: أن كونه يصوم يوما ويفطر يوما لا يضعفه عن الصبر عند لقاء العدو، وكأن الرسول صلى الله عليه وسلم يشير إلى أن الإنسان لو صام مواصلا لأضعفه عن الصبر عند ملاقاة العدو.
(٢) فإذا قال قائل: هذا الآن مفقود في الشريعة الإسلامية، بمعنى أن الحلال حلال، والحرام حرام، فلو ظلم الإنسان نفسه فهل يمكن أن يعاقب بتحريم الحلال والطيبات؟

قلنا: شرعا لا يمكن، وأما قدرا فيمكن، بأن يصاب بفقر، أو يصاب بمرض ويمنع من بعض الأطعمة، أو ما أشبه ذلك، فالتحريم الشرعي انتهى وقته، لكن التحريم القدري لم ينته وقته، فربما يحرم الإنسان الرزق من الطيبات بظلم نفسه.

<<  <   >  >>